هذه الأبياتُ قد تكونُ شعِاريَ اليومَ فالفِكرُ يظنُّ أنه بلاحدودٍ وليسَ هناكَ ما يَمتنعُ عنه طَالما ظلَّ مُجَرَّداً. ولَكنه حينَما يَتطرقُ إلى الأشياءَ الحقيقيةِ في العالمِ يُصبحُ ظَنُّهُ هذا خاطئاً لأنَّ الأشياءَ تصطدمُ بالفِعل. الفيزياءُ بالإضافةِ إلى عُلُومِها المُجاورة : الفَضاءِ , الكيمياءِ , علمِ البللوراتِ , الجيولوجيا إلى آخرِهِ تُحاولُ إيجادَ صورةٍ للعالمِ وترتَطِمُ في كلِّ مَكانٍ بِحُدودهِ فالمُتَخيَّلُ والحقيقيُ لا يَتطابقان.
وحولَ هذه الحدودِ التي إكتَشَفتها الفيزياءُ أُريدُ أن أتكلمَ أولاً.
لكنَّ الفيزياءَ ليستْ إلا عِلماً واحداً مِن عُلومٍ كثيرةٍ والعلومُ ليست إلا نَمطاً واحداً من أنماطِ حركةِ الروحِ الإنسانية.
فما هي إذاً حُدود النظرةِ الفيزيائيةِ للعالمِ من خلالِ هذا المنظورِ الواحد ؟
هذه الأسئلةُ لا نستطيعُ الإجابةَ عَنها بإستخدامِ طرقِ التفكيرِ الفيزيائيةِ ولكنني لنْ أتَفاداها وإنما سأقولُ رَأيي فِيها.
كُلُّ قانونٍ طبيعيٍ يضعُ في الحقيقةِ حداً يجعلُ ما يُخالفُهُ غيرَ قابلٍ للتحقيقِ وعَكسُ هذه القاعدةِ صحيحٌ أيضاً: فحِينما تُوصِلُنا التجربةُ إلى حدودٍ لا نَستطيعُ تَفاديها رَغمَ المُحاولاتِ المضنيةِ فإنَّ هذا مفتاحٌ لِمعرفةٍ إيجابيةٍ جديدةٍ, لما نُسمِيه “القانونَ الطبيعيَ” الجَديد.
الرياضيُ البريطانيُ سِير إدموند وتيكر – وقد كان أحدَ زُملائي في جامعةِ إدنبرة – إعتبرَ هذا المبدأَ مُهماً لِدرجةِ أنَّهُ أعطاهُ اسماً يُمكننا أن نُترجِمَه ب”مبدأِ العَجز”.
في مِثلِ هذه الحالاتِ تَظهَرُ في الجانبِ النظريِ – غالِبا – مَقولاتٌ عَن مفاهيمَ ليس بالإمكانِ التَحقُّقُ منها بالتجرُبةِ ولا يُصبحُ لها مكانٌ بالتالي في الفيزياءِ فيَتِمُّ إلغاؤُها أو تَحويرُها لِتتماشَى مع القوانينِ الجَديدة.
وقَد أسَّسوا أفكارَهم على تَجاربَ سلبيةٍ معروفةٍ مثلَ حقيقةِ أنَّ الحرارةَ لا تنتقلُ تِلقائياً مِن الجسمِ الباردِ إلى الجسمِ الساخنِ أو أنه مِن المُستحيلِ تحويلُ كلِّ الحرارةِ المَوجودةِ في جسمٍ بشكلٍ كاملٍ ودونَ تغييرٍ إلى شُغل.
ولو كان هذا مُمكناً لأَمكنَ ضَخُّ الحرارةِ من المحيطِ ولأَصبحَ بالإمكانِ الحصولُ على مصدرٍ غيرِ مُنتهٍ للطاقةِ ,آلةٍ كاملةٍ من نوعٍ آخرٍ كما يُمكنُ أن يُقال.
وحتّى هُنا تَمَّ رَفعُ نَوعٍ من العجزِ إلى مَرتبةِ القانونِ الطبيعيِ وظَهرَ – كما في حالةِ قانون ِحفظِ الطاقةِ – مَدى نفعِ هذا المَبدأ.
القانونُ الثاني لايَدَّعِي ثباتَ مُتغيرٍ مُعينٍ وإنَّما وجودَ قيمةٍ معينةٍ- تُدعَى إنتروبي (القُصورُ الحَراريُّ) – لايُمكنُها أن تَتَناقَص.
بِهذا الشكلِ أمكنَ فَهمُ ظَواهرَ إنتاجِ الحرارةِ التي لايُمكنُ عَكسُها.
لكنْ حَدثَ بسببِ ذلكَ أيضاً أنَّ حَدَّاً جديداً لم يكُنْ مُتوقَّعاً ظَهَرَ لِلعِيان: فالقانونُ الثاني أدَّى إلى وُجودِ درجةِ حرارةٍ مُطلقةٍ مُستقلةٍ عن أيةِ مادةِ قياسٍ حَراريَّة ويُمكنُ تحديدُها مِن خلالِ أيِّ تدريجٍ حراريٍ عَمَليّ. درجةُ الحرارةِ هذه لها صفرٌ مطلقٌ يتواجدُ في تدريجِ سلزيوس المُعتادِ عند 273-.
وبالتالي فليس َبالإمكانِ خفضُ درجةِ الحرارةِ تحتَ هذا الصفرِ المُطلقِ وكلُّ المحاولاتِ لعملِ هذا غيرُ مجديةٍ وقد تَمَّ إثباتُهُ بعددٍ كبيرٍ من التجارُب.
لَكنْ حتَّى هذا الحدَّ الجديدَ لَم يَعنِ تقييداً لمعارفِنَا وإنَّما إثراءً لَها. السببُ في ذلكَ أننا إستطَعنا – بجوارِ الصفرِ المُطلقِ – إكتشافَ خواصَ للموادِ مُختلفةٍ تماماً عن تلكَ المعروفةِ في الحالاتِ الطبيعيَّة.
وسأذكرُ هُنا ظاهرتينِ فقَط : الأُولى هيَ تَراجعُ المُحتَوَى الحَراريِّ للأجسادِ عندَ التبريدِ الفائقِ وتَحدثُ عندَ ذلك الناقليةُ الفائِقة فالكثيرُ من المعادنِ يتحولُ عند درجةِ الحرارةِ 1 مُطلَق (أي 272-) إلى موصلاتٍ للتيارِ الكهربَائي.
ثُمَّ بقاءُ التيارِ الكهربَائيِّ سَارياً لمدةِ ساعاتٍ في الدوائرِ المغلقةِ حتى بعد قَطعِهِ عَنها. وقد إستَطعنا اليومَ الوصولَ إلى أقربَ بكثيرٍ من درجةٍ مطلقةٍ واحدةٍ (إلى حوالي واحدٍ على مِليونٍ من الدرجةِ) لكنني لَن أتكلمَ هُنا عن الأشياءِ العجيبةِ التي تحدثُ حِينَها.
ومعَ أنَّ إكتشافَ حَدِّ التبريدِ هذا كان مُثيراً في أولِ الأمرِ إلاَّ أنَّه أمكنَ فَهمُهُ بعدَ ذلكَ بإستخدامِ النظريةِ الحركيةِ للحرارةِ والتي تقولُ بأنَّ الحرارةَ ناتجةٌ عن الحَرَكَةِ الخفيَّةِ العَشوائيةِ للجُزيئاتِ وبالتالي فإنَّهُ يُوجدُ وَضعٌ بلاحرارةٍ تكونُ فيه الجزئياتُ ساكنَة.
من المفيدِ البحثُ عن أمثلةٍ أُخرَى لإستخدامِ مبدأِ العجزِ في الفيزياءِ وليسَ مُهماً في هذا السياقِ ما الذي سَبَقَ تاريخياً : فَشلُ كلِّ التجارُبِ التي حاولت الوصولَ إلى شيءٍ معينٍ أم فهمُ هذا الفشلِ باستخدامِ قانونٍ طبيعيٍ جَديد.
في نظريةِ النسبيةِ هُناكَ أمثلةٌ للحَالتين. الظواهِرُ الضوئيةُ والكهرومغناطيسيةُ تحدثُ في الفراغِ أيضاً.
كان الإفتراضُ المنطقيُ أنَّ الفضاءَ الفارغَ من المادةِ التقليديةِ يحتَوي على مادةٍ رقيقةٍ – تُسمَّى الأثيرَ- تَحمٍلُ تلكَ الظواهرَ ويُمكنُ تفسيرُ الضوءِ بواسطَتِها.
كانت الأرضُ لِتتحركَ خِلالَ الأثيرِ وكما يُمكنُ الإحساسُ بالريحِ المقابلةِ في السيارةِ كان ينبغِي أن تَهُبَّ ريحُ الأثيرِ على الأرضِ بِحيثُ نَستطيعُ إثباتَ وُجودِهَا بِالضوءِ لأنَّ مَوجاتُ الضَوءِ كانت لِتأخُذَ وَقتاً أطولَ حينَ تقطعُ المسافاتِ في الإتجاهِ المضادِ لرياحِ الأثيرِ.
لكنَّ التجاربَ الدقيقةَ – وبالذاتِ تلك التي قامَ بها ميكلسون ومورلي – أظهرت أنَّ هذا لا يحدُث.
جَرَت مُحاولاتٌ لتفسيرِ هذه التَجاربِ بتغييرِ قوانينِ الحُقولِ الكهرومغناطيسيةِ وتمَّت هذه المحاولاتُ على يدِ علماءٍ كِبارٍ مِثلَ لورنس وبوانكاريه وحَقَّقَتْ بَعضَ التَقَدُّمِ إلا أنَّ الأمورَ لم تَتَّضِحَ إلا عندما إستخدمَ أينشتين العجزَ عن قياسِ الأثيرِ كنقطةٍ إبتدائيةِ وقامَ برفعِ كَونِ سُرعةِ الضوءِ غيرَ مُتعلقةٍ بحركةِ المُشاهدِ إلى مرتبةِ القانونِ الطبيعيّ.
كان هذا مُناقضاً بالطبعِ للمفاهيمِ التقليديةِ عن الحركةِ لكنَّ أينشتين لاحظَ أنَّ هذه المَفاهيمَ تُؤدِي إلى دائرةٍ منطقيةٍ مُفْرَغَةٍ ولايُمكنُ بالتالي التمسكُ بها في الفيزياء: فَلتحديدِ سرعةِ الضوءِ بدقةٍ نحتاجُ إلى ساعاتٍ تسيرُ بشكلٍ مُتزامنٍ وفي أمكانَ مُختلفةٍ لكننا لايُمكنُنا أن نتحكَّمَ في تَزامُنِها بالإشاراتِ الضوئيةِ إلا إذا استطَعنا مَعرفةَ سرعةِ الضَوء.
أدَّى إنتقادُ مفهومِنا عن التزامنِ هذا – من خِلالِ أعمالِ أينشتين ومينكوفسكي – إلى مُراجعةِ مَفاهِيمنا عن المكانِ والزمانِ والميكانيكا والكَهرومغناطيسية. هناك الكثيرُ من النتائجِ التى أكدَتها التجاربُ سأذكرُ منها هنا واحدةً فقط لأنها مِثالٌ لكيفيةِ توسعةِ المداركِ في إتجاهٍ بعد إغلاقِها في إتجاهٍ آخَر.
أعنِي هنا التمَدُّدَ الزَمَنِيَّ الذي أصبحَ في الآونةِ الأخيرة مَثارَ نقاشٍ لعلاقتِهِ بإكتِشافِ الفَضاء.
يُغادرُ رائدُ فضاءٍ الأرضَ ويُسافرُ بسرعةٍ كبيرةٍ إلى نجمٍ بعيدٍ ثم يعودُ مرةً أُخرى. إذا إستغرَقَت رحلتُهُ هذه عَشرةَ سنواتٍ من عُمُرِهِ فإنَّهُ حينما يعودُ يَجدُ أنه قد مرَّت مِئاتُ السنينِ على الأرض.
إدعاءُ أينشتين هذا إعتُبرَ مُنذ اللحظةِ الأُولَى سَخيفاً ولمْ يَلقَ وَقتَها سِوى القليلَ من الإهتِمام. لكنَّه اليومَ ومع وجودِ من يعتقدُ أن السفرَ عبرَ الفضاءِ قد يكونُ مُتاحاً لتقنياتِ المستقبلِ -وأنا أعنِي هنا السفرَ الى النجومِ البعيدةِ وليس الى القمرِ فقطْ – أصبحَ هذا الإدعاءُ يَلقَى أصواتاً مُعارضةً عَالية.
من وِجهةِ نظرِ الفيزياءِ فإنَّ الفَرضَ بأنَّه في حالةِ سفرِ أحَدِ شقيقيّ توأمٍ في الفضاءِ وبقاءِ الآخرِ في المنزلِ فإنهما حينما يتقابَلان مَرةً أُخرى سَيجِدان إختلافاً في العُمُرِ بينهُمَا (في الجسدِ والعقلِ), هذا الفَرضُ صحيحٌ تماماً ويُمكن إثباتُهُ بالتَجربة.
أن يستطيعَ الإنسانُ بتقنياتِهِ القيامَ بمثلِ هذه الرحلةِ فعلاً, هذا ما يُساوِرُني شكٌ كبيرٌ فِيه.
أريدُ في هذا السِياقِ أن أرفضَ بشدةٍ كُلَّ تلكَ الإعتراضاتِ التي عَلَت تحتَ مُسمى “النقدِ الأُونْتِي”.
سأذكرُ هنا كِتابين : أحدهما لفريدريش ديساور عُنوانُه “معارف العلوم الطبيعية” والصادرُ في فرانكفورت 1959 والثاني لنيكولاي هارتمان بعنوانِ: فلسفة الطبيعة والصادرُ في برلين 1950.
يتِمُّ الحديثُ فيهما عن أنَّ الملاحظاتِ الفيزيائيةَ وكُلَّ ما يَنبنِي عليها من مقولاتٍ غيرُ مُتعلقةٍ بالمكانِ والزمانِ الحقيقيينِ وإنما بالطريقةِ الفيزيائيةِ التي نُدركُ بها هذه الأشياءَ أي بطريقةِ القياسِ يإستخدامِ الضَوء. من المُهمِّ – حسبَ هذا الرأيِ – أن نُميِّزَ إذا بينَ المقياسِ وذاتِ الشيءِ المَقيسِ (المسماةِ : “حقيقَتَهُ الأُونتية”).
هذه الأخيرةُ تَعني – حسبما فَهِمتُ من خلالِ تَعمُّقِي في تعاليمِ “الأُونتيين” – جوهرَ الشيءِ الذي نَصلُ إليه بالتاملِ وبدونِ أدواتٍ أو بِما كان يُسمِيه أُستاذي المُتوفِى الفيلسوفُ إدموند هرسل: “النظرَ الذاتِي”.
قَناعتي أن الأمرَ على العكسِ من ذلك تماماً: فالمُقولاتِ الموضوعيةِ عن الأشياءِ الحقيقيةِ الخارجةِ عن نِطاقِ ما أُعطينا من إمكانياتٍ ككائناتٍ أرضيةٍ (بلا أدواتٍ صناعيةٍ سَهلةِ الإستخدامِ) هذه المقولاتِ لايمكنُ أن تُستنبطَ إلا بالملاحظاتِ الفيزيائيةِ والقياسَات.
في ذلك المجالِ المباشرِ الناتجِ عن “النظرة الذاتية” تختلط العناصرُ الموضوعيةُ مع العناصرِ الشخصيةِ والعناصرُ الفيزيائيةُ مع العناصرِ النفسيةِ ويكونُ من الصَّعبِ الفصلُ بينها.
ليس المطلوبُ من مُصطلحِ الزمكانِ الفيزيائي إلاَّ أن يكونَ مُتوافقاً مع التجاربِ البشريةِ اليوميةِ والنظراتِ الشخصيةِ بمختلفِ طرائقِها وغيرَ متناقضٍ معها. وهذا ما تُحقِقُهُ النسبيةُ بالفِعل.
لَكِنْ ليس لأحدٍ الحقَ في أن يُسقِطَ نَظراتِه الشَخصيةَ ووقتَه المعاشَ على الأبعادِ التى لا يستطيعُ سِوى العلمُ بأدواتِه الوصولَ إلَيها.
العِلمُ يَقومُ بنفسِهِ بالتأكدِ من أنَّ نظامَ مُصطلحاتِهِ لايحتَوي على تناقضٍ داخليّ.
قد يَعترضُ أحدٌ على النسبيةِ – وهذا ما حدَثَ فِعلاً – بالقولِ بأنَّ إفتِراضَ ثباتِ سُرعةِ الضَوءِ لكلِّ من يتحرَّكُ نِسبياً بنفسِ الطريقةِ وإفتراضَ أنه لا تُوجدُ أيضاً أيةُ طريقةٍ أسرعُ من الضوءِ لتحقيقِ التزامنِ المطلوبِ في الساعاتِ, أن هذه الافتراضاتِ تُمثِّلُ مبالغةً: فكيفَ يُمكننا أن نعلمَ إن كان العِلمُ سيستطيعُ إختراقَ هذا الحاجزِ في المستقبلِ أم لا؟
والردُّ على ذلك: النظامُ الفيزيائيُ المبنِّيُ على هذه الفرضيةِ خالٍ من التناقُضِ وقوانينُهُ تَضمَنُ بشكلٍ تلقائيٍ أنْ لا يستطيعُ أيُ جسمٍ أو جُملةٍ مَوجيةٍ التَسارعَ إلى سرعاتٍ أعَلى من الضوءِ وذلك لِتزايدِ المقاومةِ الناشئةِ عن العَطالةِ (الكُتلةِ) مع السُّرعَةِ حسبَ قَوانينِ النسبيةِ ووصولِها إلى اللانهايةِ في حالةِ سرعةِ الضَوء.
وقد تَمَّ التَّأكُدُ من صحةِ هذا الفرضِ الأخيرِ بالكثيرِ من التجاربِ الدَقيقة. لدَينا بالتالي نظامٌ سليمٌ منطقياً وموثوقٌ به تَجريبيأ ولايمكنُ للمستقبلِ أن يأتِ بشيءٍ في الإتجاهِ المُعاكسِ كما يَفتَرضُ الإعتِراضُ “الأُونتي”.
الإدعاءُ السابقُ بأنَّ الشَقيقَ التوأمَ المُسافرَ عبرَ الفَضاءِ يَيقَى أصغرَ سِناً من شَقيقِهِ الباقي على الأرضِ لاينبغِي أن يُنظرَ إليهِ كمُفارقةٍ وإنما ك”معجزةٍ علميةٍ” بالضبطِ كما يُنظرُ للراديو أو للرائِي أو في مجالٍ آخرَ للمُعجزةِ الإقتصادية: أمرٌ ليس فيه مايُناقضُ المَنطقَ وإنما مايَدعو للعَجَبِ ففي الظروفِ البيولوجيةِ العاديةِ التي وَجدها الجِنسُ البشريُ لايمكنُ أن يحدثَ شيءٌ كَهذا فالتوائمُ يحتفظونَ بنفسِ العُمرِ على الأرضِ ولا يستطيعُ أحدٌ التحدُّثَ مع أو رُؤيةَ أشخاصٍ إلاالموجودينَ بقُربِهِ ومتى قامَت أيُ دولةٍ بإخراجِ خُصُومِها في الحربِ من الضائقة؟
كي يحدثُ كلُّ هذا كان يَنبغي أن تتحققَ مُعجزاتٌ فكريةٌ في الفيزياءِ أو في السياسةِ والأخلاقِ – أنا أعنِي هنا خِطةَ مارشال الناتجةَ عن رُؤيةٍ إنسانيةٍ بعيدةِ النَظرِ والتي إستطاعَت أوروبا بفَضلِها أن تقِفَ مُجَدَّدَاً على قَدميها.
لِنَكُن مُستعدينَ أن نَتقبَّلَ هذا النوعَ من “المُعجزاتِ” ونَتَعجبَ منها !
من وِجهةِ نظرِ الفيزياءِ فإن التَّمَدُّدَ الزَمنيَ ثابتٌ نظرياً وتجريبياً وبالإمكانِ إستنباطُهُ مَنطقياً من تحديدِ سُرعةِ الإشاراتِ بالاستعانةِ ببعضِ الرسومِ البيانيةِ البسيطةِ إضافةً إلى التجاربِ الدقيقةِ بالطَبع.
فحتى وإن كان الإنسانُ لا يستطيعُ أن يُسافرَ بسرعةٍ كافيةٍ اليومَ فإنه يُمكنه أن يُحرِّكَ جُزيئاتٍ ضوئيةً أو مُشعةً ذاتَ دَوَراتِ حياةٍ خاصةٍ إلى تلك السُرعات.
تَكمُنُ صُعوبةُ المُلاحظةِ المُباشرةِ للمَصدرِ الضَوئي في أن البُعدَ أو القُربَ عن المَصدرِ يُحدثُ ظاهرةً بسيطةً تُسمى ظاهرةَ دوبلر يَزيدُ فيها العددُ المَوجيُّ أو يَنقُصُ حَسبما إقتَرَبنا أو إبتَعَدنا ويَنبغي بالتَالي للملاحظِ البَقاءَ في وضعٍ مُتعامدِ على إتجاهِ الرؤيةِ (بمعنىً أدَق: إتجاهَ حركةِ مصدرِ الضوءِ) وأن لا يَقتربُ أو يبتعدُ عنه.
ولقد إستطاعَ الأمريكيُ إيف حَلَّ هذه الإشكاليةَ ويُمكنُنا اليومَ تحديدُ التغيرِ في العددِ الموجيِّ بشكلٍ سليمٍ تماماً.
مُدَّةُ حياةِ هذه الجُزيئاتِ مَعروفةٌ بالتجربةِ للسرعاتِ الصغيرةِ على الأرض. نفسُ هذه الجزيئاتِ تتكوَّنُ أيضاً حينَ تصطدمُ الأشعةُ الكونيةُ بالطبقاتِ العُليا من الغُلافِ الجوِّي وتصلُ عندها الى سُرعاتٍ هائلَة.
نكتشفُ أن الكثيرَ منها يصلُ بالفعلِ إلى سطحِ الأرضِ وأنَّ الوقتَ اللازمَ لوصولِها – بالرغمِ من السرعةِ الشديدةِ – أكبرُ بآلافِ المراتِ من الوقتِ المُتوقَّعِ لحياةِ مثيلاتِها البطيئةِ على الأرض.
كان يَنبغي إذاً أن تَتَحلَّلَ وهي في طريقِها للأرض. حلُّ هذا اللغزِ يَكمُنُ بالطبعِ في التَمَدُّدِ الزَمَنيّ الذي يُفسرُ طُولَ العمرِ الإفتِراضيِّ لهذه الجُزيئاتِ بالنسبةِ إلى المُراقبِ الأرضيِّ تَماماً كما في حالةِ الأشِقَّاءِ التَوائم.
مِنَ المَعروفِ أنَّ أينشتين قامَ بتوسِعَةِ النِسبيةِ الخاصةِ التي كُنتُ أتكلمُ عنها لأخذِ الجاذبيةِ بعينِ الإعِتبار.
وحتى هُنا يُمكننا الحديثُ عن تطبيقِ مَبدأِ العجزِ فالأمرُ مُتعلقٌ بإعادةِ تفسيرِ ظاهرةِ أنَّ كُلَّ الأجسامِ تقعُ بنفسِ السُرعةِ إذا ما قُمنا بالغاءِ أثرِ مُقاومةِ الهواءِ والعَواملَ الشَبيهة.
قامَ أينشتين بتفسيرِ هذه الظاهرةِ كالآتِي : المُلاحِظُ الموجودُ في صُندوقٍ مُغلقٍ لايستطيعُ أن يُميِّزَ إذا ماكان التَسارعُ الذي يَشعرُ به ناتِجاً عن جاذبيةِ تَشُدُّهُ إلى أسفَل (أي أنَّه يُسقُطُ) أمْ قُوىً تّشُدُّهُ في الإتجاهِ المُعاكسِ داخلَ مَجالٍ تَنعدمُ فيه الجَاذبية.
طِبقاً لهذا المبدأِ المُسمَّى : “مبدأَ التكافؤِ” تُعبِّرُ التَجاربُ المُباشرةُ عن عدمِ إمكانيةِ التَمييزِ بينَ العَطالةِ والثِقَل.
طالبَ أينشتين بجعلِ هذا العجزِ قانوناً طبيعياً وإنتَقَلَ بهذا الشكلِ إلى النسبيةِ العامةِ والتي تُعَدُّ من أعظمِ إنجازاتِ الفكرِ البشريِّ وأكثرِها جُرأَة. حسبَ هذه النظرةِ يتمُّ إعتبَارُ المَداراتِ المُنحنيةِ للكواكبِ مساراتٍ خطيةٍ في هندسةِ الزمكانِ المُختلفةِ عن الهندسةِ الأقليديةِ المَدرسيةِ.
يُنظرُ للمكانِ نفسِهِ على أنَّه مُنحنٍ وإنحِناؤُهُ مُتعلِّقٌ بكتلةِ الأجسامِ السَماويَّة. وهكذا جَرَتْ الإستِعاضةُ عن النظامِ النيوتونيِّ بشكلٍ كاملٍ وتَمَّ تفسيرُ الظاهرةِ الوحيدةِ التي تَعارَضَتْ فيها القياساتُ مع علمِ الفلكِ النيوتونيِّ (والمتعلقةُ بمسارِ كوكبِ عطارد) بشكلٍ مباشرٍ ودونَ أيةِ فَرَضِيَّاتٍ إضافيَّة. تمَّ إثباتُ بعضِ النتائجِ الأُخرَى لنظريةِ أينشتين أيضاً لكن بدقةٍ أقَل.
مِن أهمِّ ثَمراتِ أفكارِ أينشتين تلك التي يُمكنُنا إستِخدامَها لفهمِ هيكلِ وتاريخِ نُشوءِ النظامِ النِجميّ. ومعَ أنَّ هذا الموضوعَ مثيرٌ لِمَن يُريدُ أن يتكلمَ فيه سأقتَصرُ هنا على آراءِ أينشتين عن الكونِ لأنَّ لها صِلةً مُباشرةً بموضوعِ حُدودِ نظرتِنا للعَالم.
أعني هنا السؤالَ المطروحَ مُنذُ القدمِ عن حُدودِ الكونِ الزَمانيَّةِ والمَكانيَّةِ : هَل هي موجودةٌ وأينَ تَقَع؟
لَن أتكلمَ هُنا عن النظرةِ القديمةِ للسماءِ وطبقاتِها الشَفَّافةِ التي تَمَّ تثبيتُ النجومِ فيها كما تُثَبَّتُ المَصابِيح.
بعدَ كوبرنيق بَدأَ النِقاشُ الجِدِيُّ عن عددِ النُجومِ الثابتةِ وهل هو نِهائيٌ أم لا نِهائي. كلا الرأيَينِ كان له ما يُعَزِّزُه. قِيلَ مَثلاً أنَّ الفضاءَ اللانهائيَ لايمكنُ أن يكونَ مَليئاً بالنجومِ بشكلٍ متساوٍ لأنَّ السماءَ ستكونُ عِندها ساطعةً في كلِّ مَكان.
لكنَّ إفتراضَ نهائيةِ عددِ النجومِ لَم يكُنْ أيضاً مُمكِناً وتَمَّ تعليلُ ذلك كالتَالي : البعضُ قالَ أنَّ أيَ نظامِ نَجميٍّ نِهائيٍّ لابُدَّ وأن يَسقطَ إلى الداخلِ بفِعلِ قُوى الجاذبيةِ والبعضُ الآخرُ قال أنَّ النُجومَ وبما أنَّها تَتَحرَّكُ فهي كجزيئاتِ الغازِ التي إن لم يكُنْ لها غلافٌ مُحيطٌ تَتَشَتَّتْ (ينفجرُ الغازُ) كما هو مَعروف.
طَرحَ الفيزيائيُّ والفيلسوفُ إرنست ماخ من فِيينا فكرةً مُهمةً في هذا السياق: حسبَ نيوتن تُمثِّلُ قُوى العّطالةِ التي تَظهرُ حينَ إختلافِ شكلِ الحركةِ عن الخطِ المُستقيمِ – كمَا في حالةِ قِوى الطردِ المركزيةِ مثلاً- مَظهراً فيزيائياً لوجودِ مَكانٍ مُطلَق.
لَم يكُنْ هذا الطرحُ مُقنِعاً لماخ وطَالَبَ بأن تُفسرَ هذه القِوى بِكونِها تأثيراتٍ للكُتلِ البعيدةِ في النظامِ الشمسيِّ كَكُل. مَبدأُ ماخ هذا جَعلَ أينشتين يُخمِّنُ تَخميناً جَسُوراً: أن يكونَ العالمُ نِهائياً لكنَّه غيرُ مَحدود.
حتَّى نَفهمَ ما الذي يَعنيهِ يَنبغِي أن نَذكُرَ أنه حَسبَ أينشتين فإنَّ المكانَ نَفسَهُ يَنحنِي.
ماالمقصودُ بِهذا ؟
لنتخيلَ أنَّنا لَسنا كائناتٍ ثُلاثيةَ بَلْ ثُنائيةَ الأبعادِ (أي مُسطحةً تَماماً) نَحيَا على سَطحٍ ثُنائيِّ الأبعاد. بما أننا لن نستطيعَ عندها تَخَيُّلَ البعدِ الثالثِ (كما لا نستطيعُ حالياً تخيُّلَ البعدِ الرَابع) فلن نَفهمَ المعنَى الحقيقيَّ لإنحناءِ عالَمِنا.
يُمكنُنا مع ذلك أن نكتشفَ أنَّ هَندستَنا تَختلفُ إختلافاً كبيراً في بعضِ الأنحاءِ عن هندسةِ إقليدس وأنَّ قَوانينَها بِمُنتهى البساطةِ لا تنطبقُ بدِقَّة.
يُمكننا ساعَتَها أن نَستخدمَ المُثلثاتِ وماشَابهَ لإثباتِ أنَّنا نَحيا على كرةٍ (وفي الحقيقةِ هناك تَشابهٌ كبيرٌ بينَ حياتِنا على الأرضِ وحياةِ الكائناتِ ثنائيةِ الأبعادِ على المسطحِ والفرقُ يكمُنُ في أنَّه يُمكننا تخيُّلَ البعدِ الثالثِ بينَما الكائناتُ الثنائيةُ لا يُمكنُها ذَلك).
فكرةُ أينشتين اذاً هيَ أنَّ عالمَنا الثُلاثيَّ الأبعادِ هو بِمثابةِ سطحِ كرةٍ رُباعيةِ الأبعادِ ومُغلقةٍ تَنحنِي في البُعدِ الرَابعِ الذي لا نَستطيعُ تَخيُّلُه. بهذا الشكلِ يكونُ تمدُّدُ العالمِ نهائياً وعددُ النجومِ الموزعةِ بالتسَاوي تقريباً نهائيٌ أيضاً ولا يوجدُ حدٌ نستطيعُ أن نقولَ أنَّ العالمَ ينتهِي عِندَه (أو مثبتٌ فيه بألواحٍ) ومع ذلك يكونُ محدوداً مكانيا.
هذا التخمينُ التقَى مع ملاحظةٍ فلكيةٍ مُدهِشة. إكتشفَ الفلكيُ هبل في أميريكا أنَّ النظامَ النجميَ بكاملِهِ يتمدَّد. هذا النظامُ يتكونُ كما لُوحظَ من مَجموعاتٍ هائلةٍ من النجومِ , مِلياراتٍ منها مَجَرَّتُنا دَربَ التبَّانةِ والباقِي بعيدٌ عنا إلى درجةِ أنه لا يظهرُ إلا كبقعٍ ضَبابيَّةٍ لايُمكنُ رُؤيَتُها إلا بمناظيرَ ضَخمَة.
نستطيعُ أن نَقيسَ بُعدَ هذه البقعِ الضبابيِّةِ (المجراتِ) بدقةٍ بإستخدامِ طُرُقِ قياسِ الطيفِ كما يُمكنُ قياسُ حركةِ هذه المجراتِ في إتجاهِ النظرِ سواءً في الإقبالِ إلينا أو الإبتعادِ عنا بشكلٍ دقيقٍ بواسطةِ ظاهرةِ دوبلر التي تَحدَّثنا عنها والتي تُحدث إزاحةً حمراءَ أو زرقاءَ في ألوانِ الطيفِ حَسبَ إتجاهِ حركةِ المجموعاتِ المُشاهَدة (لونٌ أزرقٌ في حالةِ الإقترابِ وأحمرٌ في حالةِ الإبتعاد).
إكتشفَ هبل أنَّ كُلَّ المجراتِ تبتعدُ عنَّا وإبتعادُها يكونُ أسرعَ كلَّما كانت أبعَد. معادلاتُ الجاذبيةِ عند اينشتين تَحتوي على حُلولٍ تشرحُ هذا التصرفَ بالذاتِ وتُصوِّرُ عالَماً كُروياً – بالنسبةِ الى آخرَ ثُنائيِّ الأبعادِ – يتِمُّ النفخُ فيه كالبالونِ فيَتَمدَّد.
هذه الفكرةُ تؤدِّي بنا فوراً إلى السؤالِ عن البدايات: إذا عُدنا ذِهنيَّاً بعمليةِ النفخِ إلى الوراءِ سنصلُ إلى نُقطةِ البدايةِ حينما كان البالونُ صغيراً جداً أي حينما كان العالمُ مُختَزلاً في حيِّزٍ بَسيط.
يُمكننا بإستخدامِ قياساتِ هبل أن نعرفَ متى كان هذا ومن نظريةِ أينشتين أن نحسِبَ قُطرَ العالمِ الكُرَوِّي كما هو اليومَ بالإضافةِ إلى الكثافةِ المتوسطةِ للكُتَلِ الموجودةِ فيه. نجدُ بهذه الطريقةِ أن العالمَ عمرُهُ حوالَي الستةِ ملياراتِ سنةً وأن قُطرَهُ ستةُ سنين ضوئيِّةٍ ونِصفٌ وأنَّ الكثافةَ المُتوسطةَ هي ثلاثونَ ذرةَ هيدروجينٍ في المترِ المكعَّب.
هذه النظرةُ للعالمِ تَلقَى قُبولَ مُعظمِ عُلماءِ الفَلَكِ والفيزيائيين لكونِها مُفَسَّرَةٌ جيداً لكنَّها ليست مَحلَ إجماعِ الكُلّ. هُناك نَظرياتٌ مُنافسةٌ – أحدُها من علماءَ فلكٍ بريطانيين – تَرى العالمَ مُستقراً. بَدلاً من يومِ خَلقٍ مُعينٍ يَنبغِي – حَسبَ تلك النَّظرةِ – تَخيُّلُ خَلقٍ مُستمرٍ للمادةِ في كل مَكانٍ من العالمِ المُتمدِّد.
إذا عُدنا مَرةً أُخرَى للعالمِ الكُرَوِّيِ الذي بَدَأَ في لحظةٍ ماصغيراً جِدا ثمَّ “إنتفَخ” : ما الذي كان مَوجوداً قبلَ البِداية ؟
هَل لهذا السؤالِ أيُّ مَعنىً ؟
يُحتملُ أن يكونَ لا مَعنى لَه. حَسبَ أينشتين فإنَّ مُصطلحاتِ المكانِ والزمانِ لايُمكنُ فَصلُها عن المادةِ ولديها الصفاتُ المعتادةُ السهلةُ والمفهومةُ نسبياً لأنَّ المادةَ مُوزعةٌ بشكلٍ ضعيفٍ أي أنَّ المسافاتِ بين النُجومِ ضخمةٌ جِداً.
بالتالي : من المُحتملِ أنه بالعودةِ ملياراتِ السنينِ إلى الوراءِ ومع الكثافةِ الهائلةِ للمادةِ أن لاتكونَ لتصوراتِنا للمكانِ والزمانِ معانٍ وتَفشلُ تماماً.
هُنا نَصطدمُ بحدودِ نظرتِنا للعالمِ الفيزيائيِّ بشكلٍ يتخطَّى خيالَنا إلى درجةِ أنه من الأفضلِ الإبتعادَ عَنها.
بعدَما تكَلَّمنا عن حُدودِ العالمِ في شكلِهِ الكبيرِ من حيثُ المكانُ والزمانُ والسرعةُ ينبغِي علينا الحديثُ عن حدودِهِ الصغيرةِ في عالمِ الذرَّاتِ والجزيئاتِ الأوَّليَّة.
لَكنْ يتعين علينا أن نأخُذَ إستراحةً فِكريةً أولاً ونَسألَ : ماوضعُ طرقِ البحثِ والتفكيرِ التي سنستخدمُها لهذا الغرضِ وهل سنصطدمُ بقصورٍ ينبغِي علينا أخذَهُ بعينِ الإعتبارِ قبلَ الخوضِ في هذه المغامرةِ في الكونِ المتناهي في الصِغر؟
تعتمدُ الطرقُ الرياضيةُ في الفيزياءِ على تصَوُّرِ الإستِمراريَّة.
فيفُترضُ وجودُ نِقاطٍ بلاتَمَدُّدٍ ولحظاتٍ واضحةِ التعيينِ وخطوطٍ وسطوحٍ لانهائيَّةِ الدِقَّة. لِحسابِ موقعِ نُقطةٍ على خطٍّ يتمُّ إستخدامُ إحداثياتِها وهو البعدُ س عن نقطةِ الصفرِ ويُفترضُ أنه يُمكنُ تحديدُ س بدقةٍ لانهائيَّة.
للعملِ مع مثلِ هذه القيمِ تمَّ إختراعُ الأرقامِ الكسريةِ ذاتِ عددِ الخاناتِ اللانهائيِّ (بلا تكرارٍ) مثلُ 55….7.34 (حيثُ تُستخدمُ النقاطُ للتعبيرِ عن بقيَّةِ الخاناتِ التي لانُريدُ كتابَتَها).
حتى نَبقى منطِقيين فإننا نعتبرُ أيَّ رقمين من هذه الأرقامِ غَيرَ مُتَّفِقَين حينَ يختلِفان في خانةٍ عشريةٍ واحِدة. فإن إتَّفَقَا مَثَلاً في أولِ مئة ِ خانةٍ ثم إختَلَفا في الخانةِ رقمِ مئةٍ وواحدٍ فإننا نعتبِرُهُما مُختلِفَين رياضِيا.
وقد ظَهرتْ أهميةُ هذا “التنبؤِ” في العلومِ الفلكيةِ بالذات.
هنا نَصطدمُ بفكرةِ التَوَقُّعِ أو التحديدِ المُسبقِ بشكلِها الرياضيِّ الحَاد. إذا أمكنَ اليَومُ معرفةَ مكانِ وسرعةِ كلِّ جُزَيءٍ في المادةِ وإن إستَطعنا الحسابَ بسرعةٍ كافيةٍ فإنه يكونُ بالإمكانِ تَوَقُّعُ المستقبلِ لإيِّ فترةٍ قادِمة.
بما أنَّ مثلَ هذه القدراتِ في الملاحظةِ والحسابِ تَتَعَدَّى قُدُراتِ الإنسانِ فإنَّ الفَلكيَّ لابلاس تَكَلَّمَ (في نهايةِ القرنِ الثامنِ عَشَرِ) عن رُوحٍ شيطانيةٍ تستطيعُ فِعلَ كلِّ هذا ويَنبغِي على الفيزيائيِّ أن يَسعَى إلى مُحاكاتِها.
وعلى الرغمِ من عَدَمِ واقعيةِ هذه النظرةِ للمستقبلِ ظلَّتْ فكرةُ التَوَقُّعِ المسبقِ مُؤثرةً حتى عصرِنا الحَالي ليس فَقَط على الفيزياءِ وإنما على كلِّ العلومِ الطبيعيةِ كما كان لها تَاثيراً كَبيراً على الفَلسفة.
هُنا تَكمُنُ واحدةٌ من تعدياتِ العَقلِ الإنسانيِّ والتي تُؤدِي عادةً إلى الأَذَى.
في هذه الحالةِ سادَ الإعتقادُ الزائدُ بقوةِ الطريقةِ العلميَّةِ وإنتقلَ إلى علومٍ أُخرى لم يَكنْ لَديها الحقُ مِثلُ التاريخِ والإجتماعِ والإقتصادِ القَومِّي. هذه العلومُ ومع أنَّها لم تَكُنْ تَستطيعُ الإعتمادَ على مُعادلاتٍ تَفاضُليَّةٍ تُتيحُ لها التوقعَ بشكلٍ دقيقٍ وطويلِ الأمَدِ إدَّعَتْ ولايزالُ بعضُها يَدَّعِي (مثلُ الماديةِ الماركسيةِ) إمكانيةَ تَوَقُّعِ تطورِ البشريةِ بشكلٍ صحيحٍ وغيرِ قابلٍ للخَطَأ.
لكن : ما هي حقيقةُ إمكانيةِ التَّنَبُّؤ؟
شيطانُ لابلاس لايستطيعُ القيامَ بمُهِمَّتِهِ إلا إذا كانَ بإمكانِهِ القياسُ بدقةٍ مُطلَقة. قوانينُ الفيزياءِ مُصَمَّمَةٌ بحيثُ تُتيحُ تَوَقُّعَ الأحداثِ لكلِ الأزمنةِ وبشكلٍ مُطلقٍ في حالةِ أن تكونَ المُعطياتُ الأبتدائيةُ مُعطاةً بشكلٍ رياضيٍّ دَقيق.
لكننا لَسنا شياطيناً وإنما بشرٌ لا نَستطيعُ القياسَ الا بدِقَّةٍ نهائيةٍ وليست حتى كَبيرة.
أفضلُ ما يُمكننا قِياسُهُ اليومَ لا يَتعدى ستَ أو سبعَ خاناتٍ عَشرِيَّة. لا يبدو هذا مُضِرَّاً لأولِ وهلةٍ فالشيطانُ ليسَ إلا مثالاً بعيداً وإن أمكَنَ رفعُ الدِقَّةِ في القياسِ من جيلٍ لآخرٍ (كما حدثَ بالفعلِ في العُقودِ السابقةِ) أمكَنَنَا الإقترابُ من هذا المِثال.
هكذا كان الإعتقادُ ثم تَبَيَّنَ خَطَؤه. فالمَوضوعُ في الحقيقةِ كالتالي:
حتى في حالةِ الحركةِ الميكانيكيةِ البسيطةِ – العجلةِ التي تدورُ أو البندولِ المُتحرِّك – وبِغَضِّ النظرِ عن أثرِ الإحتكاكِ فإنَّه يَبقَى هناك قدرٌ يسيرٌ من عدمِ الدقَّةِ الإبتدائيةِ ولايظلُّ هذا القَدرُ صَغيراً وإنما يَكبُرُ حتى يَصلَ إلى لحظةٍ حاسمةٍ يكونُ فيها أكبرَ من كُلِّ مَجالِ الحَرَكَة. تُسَمَّى هذه النُظمُ بالنظمِ غيرِ المُستقِرَّةِ ديناميكيا.
في حالةِ التقليلِ من عدمِ الدقةِ في البدايةِ يتمُّ تأخيرُ اللحظةِ الحاسمةِ لكنها تظلُّ مَوجودة.
القياسُ الدقيقُ دقةً مُطلقةً لا يُمكنُ أن يكونَ إنجازاً بَشرياً وإنما شيطانياً فهو ليس مُصطلحاً مُجرداً فقط (يمكننا بلاترددٍ أن نَقولَ عنه أنه بلا مَعنىً) وإنما هو مُتناقضٌ أيضاً مع القوانينِ الفيزيائيةِ نفسِها وبالذاتِ مع النظريةِ الحَركِيَّةِ للحرارةِ التي تكلمتُ عنها والتي لايُمكنُ الشَكُّ فِيها.
هذه النظريةُ تُعَلِّمُنَا أنَّ الطاقةَ الحركيَّةَ المُتوسطةَ للأجسامِ الحُرَّةِ الحركةِ – سواءً كانت ذراتٍ أو جُزيئاتٍ أو مجموعاتٍ ذَريةٍ أو أجسامٍ ظاهرةٍ – تَتَنَاسبُ فَقط مع الحرارةِ تَنَاسُباً طَردِيَّاً (إلا في حالةِ درجاتِ الحرارةِ المنخفضةِ جداً والتي تختلفُ الأمورُ قليلاً عِندها).
عند حرارةٍ مُعينةٍ تَشتَدُّ الإهتزازاتُ الحراريةُ كُلَّمَا خَفَّ الجسمُ (لأنَّ الطاقةَ الحركيةَ هي حاصلُ ضربِ نصفِ الكُتلَةِ في مُرَبَّعِ السُرعة).
وبما أنَّ القياساتِ الدقيقةِ تستلزمُ أجهزةً شديدةَ الحساسيةِ وخفيفةً (كرافعاتٍ غايةِ في الدِقَّةِ وما شَابَه) فإنَّ الإهتزازاتِ الحراريةِ لأدواتِ القياسِ هذه تُمَثِّلُ حداً للقياسِ الدقيقِ يرتبطُ بدرجةِ الحرارة.
مثلُ هذه الملاحظةِ تَنطبقُ أيضاً على القياساتِ الكهربيةِ لكنَّني لن أتكلمَ عَنها هُنا.
بالإمكانُ ضغطِ حُدودِ القياسِ للأسفلِ بالعملِ في درجاتِ حرارةٍ مُنخَفضة. لكن بما أنَّه من غيرِ المُمكنِ الوصولُ إلى الصفرِ المُطلقِ أبداً فإنَّ الحُدودَ الحراريةَ للقياسِ الدقيقِ تَظَلُّ قائمةً دائماً ولا يُمكنُ الخلاصُ منها.
صَديقي الفِرنسيُّ ليون بريلوان يَذكُرُ في كتابِهِ الأخيرِ أنَّ الشاعرَ بول فاليري كانَ شَديدَ الإطراءِ على الجمالِ الشِعريِّ والبُرودةِ القاسيةِ والسحرِ الذي للرياضياتِ وبالفِعل (كما يقول بريلوان): وما النقاطُ اللاممتدةُ والخطوطُ اللانهائيةُ الدقةِ وأمثالُها من المعانِي الرياضيةِ غيرَ كلماتٍ شاعِرِيَّة؟
لا أُريدُ أن أذهَبَ إلى هذا الحدِّ فالرياضياتُ تَجعلُ الإستِنتَاجَ المَنطِقِيَّ الدقيقَ مُمكناً وهي بالإضافةِ إلى الفكرِ الإحصائيِّ ذاتُ فائدةٍ كبيرةٍ ولا غنىً عنها للفِيزياء.
إذا أَرَدنا أن نُعطِيَ حَتمِيَّةَ التَوَقُّعِ أو التحديدِ المُسبقِ إسماً أدبياً فإنَّنِي أميلُ إلى تَسمِيَّتِها ب”القصةِ الخياليةِ” أو ما يُطلقُ عليه بالإنجِليزيةِ: “فيكشن” , مع أنَّني أعلمُ بالطبعِ أنَّ كبارَ الباحثينَ مِن مَن أُعجَبُ بهم كبلانك واينشتين تَمَسَّكُوا بفكرةِ حتميةِ التَوَقُّعِ وأنَّ الكثيرَ من الباحثينَ المعروفينَ اليومَ لازالوا يَفعلونَ نفسَ الشَيء.
وقد ظَلَلْتُ أنا شَخصياً مُتمَسِّكاً بهذه القصةِ الخياليةِ طَويلاً حتى أقتنعتُ أنها تُخالفُ الحقِيقة.
كُلُّ هذا مَعروفٌ اليومَ إلى درجةِ أنِّي غيرُ مُحتاجٍ للكلامِ عنه. ما نهتمُ به هنا هو أنَّ الفيزياءَ التقليديةَ تفشلُ في المستوياتِ الذَريًّةِ وماتَحتَ الذريَّةِ ويَنبغِي أن يُستعاضَ عنها بشيءٍ جَديدٍ : النظريةِ الكُوانتِيَّة.
هذه النَّظريةُ واضحةٌ ومُتكاملةٌ رياضياً مِثلُ الفيزياءِ التقليديةِ تَماماً لكِنَّها مُختلفةٌ عَنها في نقاطٍ كَثيرَة.
أولاً لا يُمكنُ فَهمُهَا بإستخدامِ المَعاني المُعتادةِ للأشيَاء.
مَاتَمَّ شَرحُهُ هنا هو نَوعٌ آخَرَ من العَجزِ وهذا النَوعُ لاقَى شُهرةً كبيرَة.
السَبَبُ في ذلك أنَّنا نَتصورُ أنَّ لكلِ بُرهةٍ زَمَنِيَّةٍ مُدةٌ مٌحددةٌ ولكلِ سعةٍ مَكانيةٍ إمتِدادٌ مُعَيَّن.
هل هذا صَحيحٌ ؟
إن لم نَأخُذْ الأمورَ بشكلٍ دقيقٍ فهو صَحيح. مُدةُ مُحاضَرَتِي هذه ساعةٌ أو خَمسةُ أرباعِ الساعةِ , هذا الرجلُ عاشَ إثنَينِ وثَمَانينَ عاماً : هذه مَقُولاتٌ لها مَعنَى.
هذه النغمةُ تأخذُ عُشرَالثانيةِ (لها مَعنَى أيضاً).
لكِنَّني حَينَمَا أصبحُ أدقَ وأقولُ أنَّ نَغمةَ الأورجِ هذه صاحبةَ الخمسينَ ذَبذبةٍ في الثانيةِ أخَذَتْ حَيِّزَاً من الوقتِ يُقابل عُشرَ الثانيةِ فإنَّ هذه المَقولةَ لا تُعَبِّرُ – مَنطِقِيَّاً – عن أيِّ شَيءٍ له مَعنَى.
فَالنَغمةُ الصَّافيةُ يَجبُ أن تكونَ مَوجةً دَوريةً وحينما تَبدَأُ وتَنتَهِي فإنَّهَا لا تَظَلُّ كَذلكَ وإنما تَكونُ مُؤَلَّفَةً من خَليطٍ من النَّغَماتِ الدَّوريةِ المَأخُوذةِ من فَترةٍ مَوجيةٍ مُحَدَّدَةٍ (في مِثالِنا هُنا : بَدلاً من خمسينَ لِنَقُلْ أنَّهَا بينَ خَمسةٍ وأربعينَ وخَمسةٍ وخَمسينَ ذَبذبةٍ في الثَّانيَة).
هذه الحقيقةُ تَلعبُ دوراً كبيراً في تَصنيعِ الأجهزةِ التي تَحتَفِظُ بالصوتِ والمُوسِيقَى أو تَنقُلُها كالهاتفِ والجراموفونِ والكاسيتِ إلى آخره. تَمَّ إنشاءُ عِلمٍ كاملٍ يُسَمَّى عِلمُ المَعلوماتِ مُختصٌّ بهذه المَشاكلِ التِقَنيَّة.
عَلاقاتُ عَدَمِ الدِّقةِ فِي نظريةِ الكَمِّ لها طَبيعةٌ مُشابِهَة.
لَكِنَّ إرتِبَاطَ الكَميَّاتِ الثُنائيةِ ببعضِها البعضِ في هذه النَّظّرية يَعتمدُ على مُدركاتٍ فيزيائيةٍ عَميقةٍ وغايةٍ في الغَرابةِ: إكتشافِ بلانك بأنَّ كُلَّ مُستَوىً للطاقةِ يَتَناسَبُ مع عَدَدٍ مَوجِيٍّ مُعينٍ ومَثيلُ هذا الإكتشافِ لبروجلي الفِرِنسِيِّ: أنَّ كُلَّ قيمةٍ حَرَكيَّةٍ مُتناسبةٌ مع قِطارِ مَوجاتٍ ذي عددٍ مَوجيٍّ مُحدَّد.
ثابتُ التناسبِ في كِلتَي الحالتينِ واحدٌ وهو ثابتُ بلانك.
لَقَد أثَارَ السُؤالُ عن كَيفيةِ شَرحِ هذه الفَرَضيَّةِ الكوانتيَّةِ بِلُغَةٍ واضحةٍ الكثيرَ من المتاعبِ ولَعَلَّ أكثَرَ الحُلولِ قَبُولاً لَدَى الفيزيائيينَ هو المَنسوبُ إلى العَالِمِ الدنماركيِّ نيلز بور.
يُمكنُ بالطبعِ إعتبارُ هذه الأمورِ ظواهرَ فيزيائيةً أو كيميائيةً في المُخِّ ليست مَفهومةً بالكاملِ في الوقتِ الحَالي. يَرَى بور أنَّنا إن حاولنا فهمَها بشكلٍ فيزيائيٍ بأن نَقومَ بإجراءِ تَجاربَ على مُخِّ الكائنِ الحَيِّ مَثَلاً فَسَنُزعِجُ الظاهرةَ النَفسيةَ المَطلوبَ دراستُها وسيصبحُ هدفُنا مُستحيلَ التَّحَقُّقِ لأنَّ الكائنَ الحَيَّ سَيَمرضُ حينَها أو يموتُ بسببِ هذا التَّدَخُّل.
كُتبَت الكثيرُ من الكُتبِ العميقةِ حولَ حُرِّيَةِ الإرادَة.
بغيرِ هذه الحُرِّيةِ لايُمكنُ أن تُوجدَ مَسؤوليةٌ شَخصيةٌ أو عَدلٌ أو ظُلمٌ , لايُمكنُ أن يَكونَ هناك جُرمٌ أو عِقَاب. تَعتمَدُ كُلُّ نُظُمِنا الإجتماعيةِ على حريَّةِ القرارِ البَشريّ.
لكِن : كيفَ يُمكنُ مُوازنةُ هذا مع القوانينِ الطبيعيةِ أو السَبَبِيَّة ؟
حَسبَ هذه القوانينِ ليست أفعالِي إلاَّ نِهايةُ سلسلةٍ من الأسبابِ والمُسَبِّباتِ التي لا يُمكِنُنِي تَحَمُّلُ مَسؤوليَتَها وخاصةً إن كانت طبيعتُها إحصائيَّة.
حِينَما إهتَزَّتْ الحتميةُ ظَنَّ النَّاسُ أنَّ هناكَ طريقاً للخُروجِ مِن هذا التَنَاقُضِ: فإذا كانت العَشوائيةُ هي المُتَحَكِّمَةُ فإنَّ للإرادةِ الحُرَّةِ – مَفهومةً ككائنٍ رَوحانيٍ – مَجالاً بعدها لإتِّخَاذِ القَرار.
لكنَّ هذا الطرحَ لم يَكُن مُجدِياً لأنَّ “شيطانَ الإرادةِ” سيتعينُ عليه عندها ألاَّ يُخالفَ القوانينَ الإحصائيةَ للفيزيَاء.
يَرَى بور أنَّ هذه مُشكلةٌ وَهميَّةٌ في الأسَاس. هناك بالنسبةِ إليه نَظرتانِ للأمور : النَظرةُ الفيزيائيةُ والنَظرةُ الأخلاقيةُ وهاتانِ النَظرتانِ غَيرُ متناقضتينِ ولايُمكنُ ربطُهُما بِبَعض.
سَأكتَفِي هنا بهذهِ الأشاراتِ وأُقَرِّرُ بِناءً على كُلِّ هذا أنَّ الفيزياءَ نفسَها يُمكنُ النظرُ إليها بطريقةٍ مُكَمِّلَةٍ لِكُلِّ ماتَبَقَّى وهذا ما أَوَدُّ شَرحُهُ فيما يَلي.
ليسَ علينا أن ننظرَ إلى الفيزياءِ على أنَّها مَجموعةٌ من الطُرُقِ والمَعارفِ فحَسب وأنَّمَا على أنَّها جُزءٌ مِن حياةِ الإنسانية.
في هذا السياقِ تَظهرُ أنواعٌ أُخرَى مِن الحُدودِ لن أستطيعَ التكلُّمَ عنها بإسهابٍ وسَأقومُ فَقَط بإيضاحِ بعضِ النِقاط.
حينما كُنتُ شاباً كان بالإمكانِ أن تكونَ عالِماً مِثاليّاً لا تَهتمُّ بالتطبيقاتِ التقنيَّةِ للعِلم. لم يَعُدْ هذا مُمكِنَاً الآنَ لأنَّ الإكتشافاتِ الطبيعيةَ أصبَحَتْ جُزءاً لا يَتَجَزَّأ من الحياةِ الإجتماعيةِ والسياسية.
أصبحَ العِلمُ يَحتاجُ إمكانياتٍ كبيرةٍ لا تُوجدُ إلا لَدى الصِناعاتِ الضخمةِ أو الدولِ وبالتالي لم يَعُدْ بالإمكانِ مَنعِ هذه المُنَظَّماتِ من الحصولِ على النتائجِ وبالذاتِ التي تتعلقُ بالفيزياءِ النوويةِ وتِكنولوجيا الصواريخِ والفضاءِ التي تَلتَهِمُ كَمَّاً هائِلاً من الأمكانيَّات.
بالتالي : أصبحَ العالِمُ الطبيعيُّ جُزءاً من النظامِ التِقَنِيِّ والصناعيِّ الذي يَعيشُ فِيه وهوَ يَتَحَمَّلُ لذلك جُزءاً من مسؤوليةِ الإستخدامِ المُتَعَقِّلِ لنتائِجِه.
كان هذا الأمرُ سيَبدو بَسيطاً لو كانت كُلُّ نتائجِ التَّقَدُّمِ العِلمِيِّ والتِقَنِيِّ مَحمودَة.
نحنُ نَعيشُ اليومَ في وَسَطِ تَغَيُّراتٍ عاصفةٍ ولا نستطيعُ أن نعرفَ أينَ ستقودُنا هذه التَغَيُّرات. إحساسِي أنَّ التِقنيةَ أرادت الخيرَ – في الغالبِ وليس دائماً للأسفِ – لكنَّها صَنَعَتْ الشَرَّ في كثيرٍ من الأحيَان.
قَامَ الطِبُّ بجعلِ الكثيرِ من الأمراضِ بَسيطاً والقيامَ بالعملياتِ الجراحيةِ بلا ألمٍ وزَادَ مُتوسِّطُ العُمرِ بالتالي زيادةً كبيرةً مما نَتَجَ عنه زيادةٌ هائلةٌ في عَدَدِ النَّاس.
من غيرِ المَعروفِ إن كان إنتاجُ الغذاءِ سيستطيعُ مُواكبةَ هذه الزيادةِ وإن لَم يَستَطِعْ فإنَّ شَرَّاً سيكونُ قد نَتَجَ من هذا الخيرِ : عالمٌ بِلا مَكان.
لكنَّها في نَفسِ الوقتِ أبعَدَتْ الناسَ عن الطبيعةِ وضَغَطَتهُم في مُدنٍ كبيرةٍ وإستبدَلَت الطعامَ الصِحِّيَ بمُنتجاتٍ صِناعيةٍ مَشكوكٍ في أمرِها. سَمَّمَتْ الغاباتِ والأنهارَ والجَوَّ بالغُبارِ والعَوادمِ والأوساخِ وقَضَتْ على الكثيرِ من أنواعِ الحيوانِ الجميلةِ وجَعَلَت الأنسانَ هاجراً للفُنون.
يُمكِنُنا تَخَطِّي الآثارَ السَلبيةَ للتقنيةِ إذا قامَ كُلُّ مِنا بواجِبِه حتَّى من كان عالِماً في مَعمَلِهِ أو خَلفَ مَكتَبِه.
يُحتَمَلُ أنَّ تَعامُلَنا مَعشرَ العلماءِ مع هذا النَّوعِ من الإشكالياتِ كان سيكونُ بارداً او غيرَ مُرَحِّبٍ إذا لم نُصدَمْ جَميعاً بتجربةِ القُنبُلةِ الذَّرِّيةِ فهي تُهَدِّدُ الحضارةَ بل تُهدِّدُ إستمرارَ الجِنسِ البَشَرِيّ.
المسؤول الإقليمي السابق لدى الأمم المتحدة عن تطوير مشروع برمجيات إدارة الموارد المائية ودعم اتخاذ القرار لدول حوض النيل
دكتوراه في المعلوماتيات الطبية جيسن ألمانيا
ماجستير في علوم الحاسبات كارلسروهة ألمانيا
ماجستير في الذكاء الإصطناعي جرينوبل فرنسا