أولاً: المَنطِقُ الرِّياضِيُّ الحَديثُ والمَنطِقُ الأرسطِيُّ والفُروقُ بَينَهُما

aristotle
aristotle – writing – logic

قَد يَتَسَاءَلُ القَارِيُء المُطَّلِعُ عَلى تَاريخِ المَنطِقِ عَن سَبَبِ ظُهورِ مَبَاديءِ العَجزِ السَّابِقَةِ فِي العَصرِ الحَديثِ فَقَط مَع أنَّ العُلومَ المَنطِقِيَّةَ مِن أَقدَمِ أنوَاعِ العُلومِ وأكثَرهَا شُهرَةً وتَدَاولاً عَبرَ العُصورِ فَهيَ تَعودُ إلى زَمَنِ الإغريقِ وتَمَّ نَقلُها بِشكلٍ شِبهِ كامِلٍ إلينَا أثنَاءَ العُصورِ الوَسيطةِ مِن خِلالِ ترجَمَاتِ عُلماءِ المُسلمينَ المَشهورةِ لِكُتُبِ أرسطو (ومِن أَهَمِّهَا تَرجماتُ ابنِ رُشدٍ الأندَلُسِيِّ) ثُمَّ ظُهورُ الكَثيرِ مِن الأُطروحَاتِ الإضافِيَّةِ والانتِقَاداتِ لَها سَواءً كانَ ذَلكَ فِي الشَرقِ الإسلامِيِّ أو فِي الغَربِ الوَليد آنذَاك.

وَمَع كَثرةِ عَدَدِ المُتلَقِّينَ والمُتابعينَ والمُنتقدينَ للأفكارِ المَنطِقِيِّةِ الصِرفَةِ لأَرسطو (أَي تِلكَ الَّتِي تَتَكَلَّمُ عَن نِظامِ المَنطِقِ الصُّوريِّ فَقَط ولَا تَتَطَرَّقُ إلَى فَلسَفَتِهِ فِي الوجودَ والحَياةِ) نَجِدُ أنَّ جَوهَرَعُلومِهِ وطُرُقِ استِدلالِهِ لَم يُمَسْ بَل عَلى العَكسِ: تَمَّ قُبُولُهُ مِن الغَالِبِيَّةِ العُظمَى مِن العُلماءِ فِي المَشرِقِ والمَغرِبِ وعَبرَ فَواصلَ زَمَنيَّةٍ بَلَغَتْ مِئاتِ السِنينَ وحتى عَصرِنا الحَاليِّ ومَعَ اختِلافِ بَل تَنَاقُضِ وتَنَازُع ِ مَشَارِبِهِم.

ولَنَا فِي مَوقِفَيِّ الإمامَينِ الجَليليَنِ أبِي حامدٍ الغَزَّالِيِّ وابنِ رُشدٍ الأندَلُسِيِّ – المَعروفِ عَنهُمَا الاختِلافَ الجَذريَّ فِي مُعظَمِ قَضايَا العُلومِ الأساسيةِ – مِن دِراسةِ وفَهمِ العُلومِ المَنطقيةِ والإلمامِ بِها خَيرُ دَليلٍ ومِثالٍ : فَقَد خَالفَا فِي زمانِهِمَا رَأيَ مُعظَمِ الأقرَانِ مِن العُلماءِ والَّذي لَم يُولِي للعُلومِ المَنطقيةِ أَهميَّةً كَبيرةً واتَّفَقَا – عَبرَ حَاجِزَي الزَّمانِ والمَكانِ المختَلِفَينِ – عَلى وجوبِ تَعَلُّمِها لِكلِ مَن أرادَ الدِّراسَةَ والفَهمَ والتَّعَمُّقَ فِي شَتَّى أنواعِ العُلومِ بِما فِيها العُلومِ الدِينيَّةِ والفِقهيَّة.

مَا الَّذِي حَدَثَ إذاً واستَلزَمَ ثَورةً مَعرِفِيَّةً فِي المَنطِقِ ثُمَّ أزمَةً في الرياضيَّاتِ وأُصولِ العُلومِ في نهايةِ القَرنِ التاسعِ عَشَرَ ومَطلَعِ القَرنِ العِشرينَ انتَهَت باكتشافِ مَباديءِ العَجزِ السَّالِفَة ؟

مَعَ ظُهورِ الثَّورَةِ الصِّنَاعِيَّةِ بَدَأتْ النَّظرَةُ إلَى المَنطِقِ تَتَغيَّرُ ولَم يَعُدْ مُجَرَّدَ أَدَاةٍ للفَلسَفَةِ واللَّاهوتِ يَنتَهِي مَجَالُهُ حِينَ يَبدَأُ العَالَمُ الحَقيقيُّ كَمَا كانَ فِي السَّابِقِ وإنَّمَا أصبَحَ عَوناً عَلَى فَهمِ العَالَمِ المُكتَشَفِ حَديثاً عَن طَريق ِ الفيزياءِ والفَلَكِ والرِّياضياتِ بِطريقةٍ عَقلانِيَّةٍ جَديدَة.

أَدَّى ذَلكَ إلى أبحاثٍ أُصوليَّةٍ نَوعِيَّةٍ لَعَلَّ أَوَّلُهَا بَحثُ الرياضِيِّ الكَبيرِ جورج بول لِسنةِ 1847 (4). استطَاعَ بول فِي هَذا البَحثِ وَصفَ النِّظامِ الأرسطيِّ المَنطِقِيِّ بِشَكلٍ رياضِيٍّ جَبرِيٍّ مُنضَبِطٍ وأَكثَرَ عُموماً ودِقَّةً مِن الوَصفِ الأصليّ تَرجَمَ فِيهِ العَمَلِيَّاتِ المَنطِقِيَّةَ الأسَاسِيَّةَ إلَى عَمَليَّتَي الجَمعِ والضَّربِ المَعروفَتَينِ مِنَ الرياضيَّاتِ المَدرسيَّة.

أَتَاحَ هَذَا الوَصفُ استِخدَامَ مُتَغَيِّرَاتٍ تَرمُزُ إلَى المَقولاتِ المَنطِقِيَّةِ بَدَلاً عَن الأشيَاءِ أو فِئاتِهَا وتَوسِعَةَ قُدرَةِ الآلِيَّةِ المَنطِقيَّةِ عَن طَريقِ السَّمَاحِ بعَدَدٍ غَيرِ مَحدودٍ مِن طُرُقِ الاستِنبَاطِ تَتَنَوَّعُ فِيهَا المُقدِّماتِ والفِئات بَدَلاً مِن الإعتِمادِ علَى أشكَالٍ ثَابِتَةٍ ومَحدودَةٍ كَمَا فِي السَّابِق.

سَمَحَ الوَصفُ أيضاً بإظهَارِ بَعضِ العُيوبِ وأَوجُهِ النُقصَانِِ فِي الصُّوَرِ الأرِسطِيَّةِ المَشهورَةِ تَمَّ إكمَالُهَا ثُمَّ تَعميمُ الطَّريقَةِ الجَديدةِ والَّتِي جَعَلَتْ -ولأولِ مَرَّةٍ- مَفهومَ العَمَلِيَّةِ المَنطِقِيَّةِ الخَوارِزمِيِّ أسَاساً لِمَعَانِي المَقولاتِ ودَلَالَاتِهَا وطُرُق ِ استِنتَاجِهَا.

مَكَّنَ هَذَا النَظامُ المُكتَمِلُ الجَديدُ مِن “حِسابِ” حَقيقةِ المَقولاتِ بِشكلٍ آليٍّ وفَتَحَ الطَّريقَ لِلاستِخدامِ العَمَلِيِّ لِلمنطِقِ فِي تَطبيقاتِ العُلومِ والرياضيَّاتِ المُختَلِفَةِ آنذَاك.

لَكِنَّ الحَاجةَ إلَى لُغَةٍ مَنطقيَّةٍ مُتكامِلَةٍ – كَالَّتِي كَانَ يُنادِي بِهَا فَلاسِفَةُ عَصرِ النَّهضَةِ مِثلُ لايبنيتز وديكارت – تَتَعَدَّى كَونَهَا مُجَرَّدَ “آليَّةٍ لِحِسَابِ الحَقيقَةِ” وَتُصبِحُ مَعِينَاً لَا يَنضَبُ لِلإبداعِ واكتِشَافِ مَفاهيمَ ودَلَالَاتٍ عِلمِيَّةٍ جَديدةٍ ثُمَّ التَّوَصُّلِ عن طَريقِهَا إلَى عَلاقاتِ هَذه المَفاهيمِ بِبَعضِها جَعَلَت الفَيلسوفَ والرِّياضِيَّ فريجة – فِي أُطروحَتِهِ الشَّهيرةِ لِسنةِ 1879 والمُسَمَّاةِ : “كتابَ المَفَاهيمِ” (5) – يُعيدُ النَّظَرَ فِي أُسُسِ البِنيَةِ اللُّغَويَّةِ والعَقلِيَّةِ لِمنظومةِ أرسطو ويُقَدِّمُ بَدَلاً عَنهَا نِظاماً مَنطِقيّاً جَديداً ومُخالِفاً بِشَكلٍ جَوهرِيٍّ يَعتَمِدُ عَلى مَبدأٍ أسَاسِيٍّ هَامٍ وَهو : ” تَقَدُّمُ مَعَانِي الجُمَلِ عَلى مَعَانِي الكَلِمَاتِ وعَدَمُ أَهَمِّيَّةِ مَعاني الكَلِمَاتِ بـِلَا سِياق ٍ” أَو “تَقَدُّمُ الحُكمِ عَلَى القَضايَا المَنطقِيَّةِ عَلى إدراكِ المَفاهيمِ المُستخدمةِ فِيها”.

وَبَينَمَا كَانَ بول يَعتَقِدُ بأهَمِّيَّةِ وَصفِ المَنطِقِ ِ التَّقلِيدِيِّ باستِخدِامِ الرِّياضِيَّاتِ كَانَ فريجة مُؤمِناً بإمكَانِيَّةِ بـِنَاءِ الرِّياضِيَّاتِ عَلى أسَاس ٍ مَنطِقِيّ ٍ بِمَعنَى: خُضُوعُ كُلِّ المَفاهِيمِ الرِّياضِيَّةِ – بِمَا فِيهَا المفاهِيمُ الأوَّلِيَّةُ للأعدَادِ – بِشَكلٍ كَامِلٍ لِلقوانِينِ المَنطِقِيَّة. استَهدَفَ نِظَامُهُ الجَديدُ وَضعَ قَواعِدٍ لِهَذا البِنَاء.

لِنَفهَمَ الفَرقَ بَينَ طَرحِه وطَريقةِ أرسطو يَنبغِي عَلينَا أوَّلاً أَن نُثبِـِتَ مَعَان ٍمُعَيَّنَةٍ لِبعَضِ المَفَاهيمِ الأساسِيَّةِ المُطَّرِدَةِ فِي أبحَاثِه والَّتِي سَنَحتَاجُ أَن نُمَيِّزَ بَينَهَا فيمَا يَلي بـِشَكلٍ أَدَقَّ مِمَّا سَبَق: فَألفَاظُ وكَلِماتُ لُغَةِ المَنطِقِ سَتُسَمَّى مِنَ الآنِ: “مُصطَلَحَاتٍ” وهِي مَبَانٌ لُغَوِيَّةٌ يَكونُ لَهَا عَادَةً مَعَان ٍ مُختَلِفَةٍ نَختَارُ مِن بَينِهَا مَعنىً واحِداً لِنَقُولَ عَنه أنَّه : “دَلالَةُ” المُصطَلَح.

وسَنُطلِقُ علَى الجُّمَلِ المُكَوَّنَةِ مِن هَذِهِ المُصطَلَحَاتِ اسمَ: “التَّعَابيرِ” ويَكونُ للتَّعَابيرِ أَيضاً مَعَان ٍ مُختَلِفَةٍ ودَلَالَات.

الدَّلَالَاتُ المُكُوِّنَةُ للتَّعَابير ِالمَنطقيَّةِ فِي مَنظومةِ أرسطو (وبالتَّالِي المُصطَلَحَاتُ الَّتِي تُمَثِّلُ تِلكَ الدَلَالَاتِ) يُفترضُ بِها أَن تَكونَ مُحَدَّدَةً ومَعروفةً قَبلَ إنشاءِ التَّعَابير ِفِيما يُسَمَّى بِمَرحلةِ تَكوينِ التَّصَوُّرَات.

فِي هَذه المَرحلةِ نُعَبِّرُ عَن الأشياءِ بأسمَاءٍ تَرمُزُ لَها وقد تَحتَوي عَلى جَانبٍ مُمَيَّزٍ مِن صِفَاتِها. فإن لَم تَستَطعْ الأسماءُ التَمييزَ تَكونُ دَلَالَات ٍ مُجَرَّدَةٍ والمُهمُ أنَّنَا نَصنَعُ هَذَا قَبلَ تَكوين ِ تَعَابيرَ مَنطقيَّةٍ عَن الأشيَاء.

فَلا يُمكنُنا مَثَلاً أن نُنشِأَ تَعبيرَ : “كُلُّ إنسانٍ فَانٍ” إلَّا إذا أدرَكنَا مَعنَى مُصطَلَحَي “إنسانٍ”و”فَانٍ” قَبلَ ذَلِك.

لَايُمَيـِّزُ نِظامُ أرسطو بَينَ الدَّلَاَلاتِ والمَعَانِي تَمييزاً جَوهَريّاً لأنَّهُ يَعتَبِرُ كِلَيهِمَا فِئاتٍ مِن أَشيَاءِ العَالَمِ الطَّبيعِيّ.

بِالنسبةِ إلَى فريجة يُقَلِّلُ هَذَا كَثيراً مِن إبداعِ اللُّغَةِ المَنطقيَّةِ إذ أنَّه يَفترِضُ وجودَ مَعان ٍودَلَالَاتٍ مُسبَقَةٍ وَمُحَدَّدَةٍ لِلكلماتِ خَارِجَ سياقِ التَّعابيرِ وَهو فَرضٌ يَرفُضُهُ فريجة ويُصرِّحُ بأنَّ : “المَفهُومُ المُستَخدَمَ فِي أيِّ جُملَةٍ هو مَحمولٌ لِقَضِيَّةٍ يَنقُصُهَا مَوضوعٌ” (6) أَو بِتعبيرٍ لُغوي : مُسنَدٌ فِي جُملَةٍ يَنقُصُهَا مُسنَدٌ إلَيه.

فَفِي الجُملَةِ :”أَيُّ رَقَمٍ مُوجَبٍ مُكَوَّنٌ مِن مَجموعِ أَربَعَةِ أرقامٍ مُرَبَّعَةٍ” نَكتَشِفُ – حَسبَ فريجة – أنَّ التَّعبيرَ : “أيُّ رَقمٍ مُوجَبٍ” لَيسَ لَه دَلالَةٌ مُستَقِلَّةٌ ويَرتَبطُ دائِماً بِسياقِ الجُملَةِ الَّذِي لَا ُيصبِحُ ذَا مَعنىً إلَّا ِبتَحديدِ المَقصودِ بالتَّعبِيرِ المُبهَمِ :”أيِّ رَقَمٍ” كَأَن يُقالَ : “الرَّقَمُ عِشرونَ مُكوَّنٌ مِن مَجموعِ أربعةِ أرقامٍ مُربَّعَة”.

سُمِّيَ نِظامُ فريجة هَذَا : “نِظامَ حِسابِ الصِّفَاتِ” لأنَّه يُتيحُ استِنبَاطَ صِفاتٍ الأشياءِ المُتَكَلَّمِ عَنهَا بِطُرُقِ استنباطٍ غَيرِ مُحَدَّدَة مُسبَقاً.

كَمَا سُمِّيَ أيضاً: “مَنطِقَ المُصطَلَحَاتِ” لأنَّه اعتَمَدَ فِكرةَ دَلالةِ مُصطلحَاتٍ مُمَيَّزَةٍ فِي النِّظامِ علَى التَّعابيرِالكَامِلَةِ.

فأسمَاءُ الأشيَاءِ (مِثلُ : 2 أو 5) مُصطلحَات. والتَّعابيرُ الصَّحيحةُ المُنشَأَةُ مِن هَذه الأسمَاءِ ومِن تَراكيبِهَا المُختَلِفَةِ مَع العَملياتِ أو الدَّوالِ المَنطقيَّةِ (مَثلُ : 2+3 أو 22) – والتَّعابيرُ المَنطقيَّةُ عَامَّةً – مُصطلحَاتٌ كَذَلِك.

إعتَبَرَ هَذَا النِّظامُ الدَّوالَ تَعابيرَ ناقصَةً لَا تَكتمِلُ إلَّا بإضافَةِ مُصطلحَاتٍ أُخرَى لَها.

فَعَمَليَّةُ الجَّمعِ مَثَلاً والَّتي يُعَبَّرُ عَنَها بالنَّمَطِ : “+(,)” لَا تَكتَمِلُ لِتُصبحَ تَعبيراً ذا مَعنىً – يُمكِنُ أَن يُوجَد لَهُ مُصطَلَحٌ – مِثلَ : “+(1,3)” إلَّا إذا أَضَفنَا لَهَا أسماءَ الأرقَامِ 3,1.

التَّعابيرُ المَنطِقِيَّةُ في هَذَا النِّظامِ تَدُلُّ عَلى مُصطَلَحَي “الصِّحَةِ” و”الخَطَأِ” الأساسيَّين.

ومِن أَهَمِ أنواعِ هَذه التَّعابير ِ تِلكَ الَّتِي لَهَا النَّمَطُ : “د(س)=ص” حَيثُ “د()” هو التَّعبيرُ النَّاقِصُ لِلدَّالةِ “د” و”س” مُتَغَيِّرٌ يَرمُزُ لِمدخلاتِ الدَّالةِ بَينَمَا يَرمُزَ “ص” إلى مُتَغَيِّرٍ لَه قِيمةٌ مُكافِئةٌ لِمخرجاتِ الدَّالة.

مِن نَتائِج ِ هَذه الرُؤيةِ إمكانيَّةُ التَعبير ِعَن نَفسِ الدَّالَةِ الرِّياضِيَّةِ بمُختَلَفِ الطُرُقِ دونَمَا تَمييزٍ لِطَريقَةِ تَعبيرٍ عَن الأُخرَى.

وَيَعتبرُ فريجة أنَّنَا إذا استَبدَلنَا اسمَ أَحَدِ الأشياءِ بِمُتَغَيِّرٍ فِي تَعبير ٍ مَنطقِيّ ٍ مَا تَحَوَّلَ إلى تَعبيرٍ غَيرِ كامِلٍ هو المُكافِيءُ لِمَا يُسمَّى “مَفهومَاً” في اللُّغَةِ الطَّبيعيَّة.

فَالتعبيرُ النَّاقِصُ : “()>2” مَثَلاً يُعَبـِّرُ عَن مَفهومِ الأشياءِ الأَكبَر ِ مِن اثنَينِ ويَجعَلُ دَلالةَ كُلِّ الجُّمَلِ الشَّبيهَةِ ب”(3)>2″صَحيحَة.

المَفهومُ إذاً هو دَالَّةٌ مَنطقيَّةٌ تُعطِي أسماءَ الأشياءِ دَلالةَ “الصِّحةِ” حَالةَ تَحقيقِها للصِّفةِ المُمَثَّلَةِ ودَلالةَ “الخَطَأِ” فِي الحَالَةِ العَكسيَّة.

وَيَعتَبِرُ فريجة الأشيَاءَ الَّتِي يُعطِيهَا مَفهومٌ مَا دَلالةَ “الصِّحةِ” وَاقِعَةً تَحتَ هَذَا المَفهُومِ وَتُسَمَّى مَجموعَةَ الأشياءِ هَذِهِ : “سَردِيَّةَ الدَّالَة (أو المَفهُوم) المَادِيَّة“.

لَا يَختَلِفُ الأَمرً بالنِسبَةِ إلَى الجُّمَلِ غَير ِالرِّياضِيَّةِ فَمَفهومُ الفَرَح ِ مَثَلاً يُمكِنُ تَمثِيلُهُ بالتَّعبيرِ غَيرِ الكَامِلِ : “فرح()” وهُو دَالَّةٌ تُعطِي المُدخَلَاتِ دَلالَةَ “الصِّحَةِ” أو “الخَطَأِ” حَسبَمَا تَحَقَّقَتْ صِفَةُ الفَرَح ِ فِي الأشياءِ المَعنِيَّةِ أو لَم تَتَحَقَق.

يُتيحُ نِظامُ فريجة بِشَكلٍ مُباشِرٍ ودُونَ فَرَضِيَّاتٍ إضَافِيَّةٍ التَّعبيرَ عَن الدَّوالِ مُتَعَدِّدَةِ المُدخَلَاتِ أيضاً (وَتُسَمَّى : عَلَاقَاتٍ) مَن نَمَطِ : “أحب(,)” أو “اشترى(,,)” ويَفُوقُ فِي هَذَا نِظامَ أرسطو المُؤَسَّسَ عَلى إثبَاتِ أو نَفي ِ عَلاقَةٍ واحِدَةٍ بَينَ مَوضوع ٍ ومَحمولٍ (مُسنَدٌ وَمُسنَدٌ إلَيهِ) فَقَط.

أَمَّا أَكبَرُ اختِلافٍ نَوعِيٍّ بَينَ نِظامَي أرسطو وفريجة فَهو ذَلِكَ المُتَعَلِّقُ باستِخدامِ الأّسوارِ لِتعميمِ التَّعابيرِ المَنطقِيَّة.

فَبينَمَا يَرتَبِطُ السُّورُ الكُلِّيُّ أو الجُزئِيُّ فِي مِنطِق ِ أرسطو بـِالمَوضوعِِ فَقَط عَلَى نَحوِِ قَولِنَا :

“كُلُّ طَالِبٍ مُجتَهـِدٌ” أو “بَعضُ النَّاسِ أذكِيَاءٌ” نَستَطيعُ التَّمييزَ فِي نِظامِ فريجة بَينَ الجُملَتَينِ :

“كُلُّ رَجُلٍ يُحِبُّ امرَأَةً” و “هُنَاكَ امرَأَةٌ يُحِبُّهَا كُلُّ الرّجَالِ” وذَلِكَ باطلَاق ِ التَّعمِيمِ عَلَى كُلِّ أركَانِ التَّعبيرِ المَنطِقِيِّ كَمَا فِي الصِيَغِ الصُّوريَّةِ التَّالِيَةِ :

“لكل(س),يوجد(ص): (رجل(س) > (امرأة(ص), أحب(س,ص)))”

“يوجد(ص), لكل(س): ((رجل(س),امرأة(ص)) > أحب(س,ص))”

يَعتَبـِرُ فريجة أنَّ اللُّغَةَ الطَّبيعِيَّةَ المُستَخدَمَةَ كأسَاس ٍ لِمَنطِق ِ أرسطو مُقَيّدَةٌ للاستِنبَاطِ المَنطِقِيِّ حِينَ تَتِمُّ تَرجَمَةُ جُملَةٍ مِثلِ :

“يُحِبُّ قَيسٌ لَيلَى” إلَى “قَيسٌ مٌحِبٌّ لَيلَى” ثُمَّ لَا نَستَطِيعُ – لُغَويّاً – استِنبَاطَ جُملَةِ

“قَيسٌ مُحِبٌّ لِبعَضِ النَّاسِ”

بِنَفسِ طَريقَةِ استِنبَاطِنَا لِجُملَةِ :

“بَعضُ النَّاسِ مُحِبٌّ لَيلَى”

مَع أنَّ كِلَيهِمَا يُمكِنُ بِالبَدَاهَةِ استِنبَاطُهُ مِنَ الجُّملَةِ الفِعلِيَّة.

وبـِمَا أنَّهُ يَرَى أنَّ الجُملَةَ فِي لُغَةِ المَنطِقِ يَنبَغِي أن تَكُونَ دَّالَةً رياضِيَّةً – لَا يُكتَفَى فِيهَا بِربَطِ المَوضوعِ بِالمَحمولِ كَمَا فِي حَالَةِ المَنطقِ الأرِسطِيّ وإنَّمَا تُعَامَلُ فِيهَا المُدخَلَاتُ كُلُّهَا بِنَفسِ الطَّريقَةِ الَّتِي تُسقِطُ التَّمييزَ الُّلَغَوِيَّ التَّقليدِيِّ بَينَ مُكوِّنَاتِ الجُملَةِ – فإنَّ نِظَامَهُ يَسمَحُ باستِنتَاجِ : “(يوجد(ص):يحب(قيس,ص))” مِن:

“يحب(قيس,ليلى)”

بـِنَفس ِطَريقَةِ استِنتَاجِ:

“(يوجد(س): يحب(س,ليلى))”

مَن نَفسِ التَّعبِير.

وأَخِيراً: البُرهانُ عِندَ فريجة هُو سِلسِلَةٌ مُتَّصِلَةٌ وَنِهائِيَّةٌ مِنَ التَّعَابيرِِالَّتِي إمَّا أَن تَكونَ جُزءاً مِنَ الفَرَضيَّاتِ الأَوَّلِيَّةِ أَو نَظَريَّاتٍ تَمَّ استِنبَاطُهَا مِن هَذِه الفَرَضيَّاتِ باستِخدامِ طُرُق ِالاستِنتَاجِ المُعتَبَرَةِ فِي نِظامِه.

أَمَّا تَعاريفُ المَفاهيمِ الرِّياضيَّةِ والمَنطقِيَّةِ فينبَغِي فِي نَظَرِه أَن تَكونَ مُحَقِّقَةً لِشرطَينِ رَئيسيَّين ِ أوَّلُهُمَا أن نَستَطيعَ استِبدَالَ المُصطلَح ِالمُعَرَّفِ الجَديدِ بِنَظِيره المُعَرِّفِ فِي أيِّ تَعبيرٍ مَنطقِيٍّ دُونَمَا إخلالٍ بِدَلَالَتِه وثانِيهِما أَن لَا نَستَطِيعَ باستِخدامِ التَّعريفِ الجَديدِ وَحدِه أَن نُبَرهِنَ عَلى صِحَّةِ تَعابيرَ لَم تَكُن صَحيحَةً مِن قَبل.

مَثَّلَ فريجة عَلى مَا يَقصِدُه بهَذه القَوانين ِ وعلى إيمَانِه بأنَّ هُناكَ مَفهومَان ِ فَقَط بإمكانِهِمَا وَصفَ الرياضيَّاتِ المَدرسِيَّةِ بِشكل كامِلٍ : مَفهومُ الأشياءِ ومَفهومُ الدَّوالِ حينَ أعطَى فِي سابقَةٍ هِيَ الأولَى مِن نِوعِهَا فِي تاريخ ِ الرِّياضيَّاتِ الأعدادَ الطَّبيعيَّةَ نَفسَهَا تَعريفاتٍ مَنطقيَّة.

فَبَيَّنَ أنَّ تَعريفَ الأعدَادِ التَّالِي هوَ أَعَمُّ تَعريفٍ مُمكِن ٍ (“م” فِي التَّعابير ِ التَّاليةِ مُصطَلَحٌ يُعَبِّرُ عَن مَفهومِ “المَفهومِ” نَفسِه) :

لايوجد(س):م(س) –العدد 0

يوجد(س): (م(س),(لكل(ص): (م(ص)>س=ص))) –العدد 1

يوجد(س), يوجد(ص): (س<>ص,م(س),م(ص),(لكل(ع): (م(ع)>((ع=س) أو (ع=ص))))) – العدد 2

…..

نُلاحِظُ أنَّ دَلالَةَ مَفهومِ العَدَدِ “1” فِيمَا سَبَقَ مُطابـِقَةٌ مَنطِقِيّاً لِدَلَالَةِ تَعبير ٍ يُصَرِّحُ بوجودِ “س” يُحَقِّقُ المَفهومَ “م(س)” ويُحَقِّقُ أيضاً شَرطَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ آخَرَ “ص” – مُحَقِّقٌ ل”م” – لَا يُمكِنُ إلَّا أَن يَكونَ مُكافِئاً ل”س”.

وهِيَ دَلالةٌ يُمكِنُ تَمثِيلُهَا بِسُهولَةٍ فِي نَظَرِيَّةِ المَجموعَاتِ أو بِطَريقَةِ الجَبر ِالبُولِيِّ فِي التَّعبيرِ عَن المَعانِي المَنطقِيَّة.

وَلنُلَخِّصُ إذاً الفُروقَ بَينَ مَنطِقِ أرسطو ومَنطِقِ فريجة فِيمَا يَلِي :

1-يَتَكَوَّنُ العَالَمُ عِندَ أرسطو مَن أشياءَ تُعَبـِّرُ عَن العَالَمِ الخَارجِيِّ وفِئاتٍ مُكَوَّنَةٍ مِن هَذِه الأشيَاء. تُكَوَّنُ المُصطَلَحَاتُ فِي مَرحَلَةِ التَّصَوراتِ قَبلَ إنشاءِ تَعابيرِ الجُمَلِ المَنطِقيَّة.

الأشياءُ فِي عَالَمِ فريجة تَمتَدُّ إلى العَالَمِ الدَّاخِلِيّ ِ للإنسَان ِ أيضاً وتَحتَوي بالتَّالِي عَلَى كُلِّ التَّعابيرِ المَنطقِيَّةِ – بِمَا فِيهَا الجُّمَلِ – المُنشَأةِ نفسِها. ثُمَّ هًناكَ الدَّوالُ – الَّتِي تُسمَّى مَفاهيماً – والَّتِي نُطبِّقُهَا عَلى هَذِه الأشيَاء.

تُقَدَّمُ عِندَ فريجة مَعَانِي تَعابيرِ الجُمَلِ عَلى مَعانَي تَعابيرِ المُصطَلَحَاتِ بَل إنَّ مَعانِي المُصطَلَحَاتِ لَيسَت قَائمةً بِذاتِها ولَا تَكتَمِلُ إلَّا باكتِمالِ الجُمَل.

2- التَّعبيرُ المُكَوِّنُ للجُملَةِ عِندَ أرسطو مُكَوَّنٌ مِن مَوضوع ٍ ومَحمولٍ (مُسنَدٌ وَمُسنَدٌ إلَيهِ) فَقَط وتَعتَمِدُ كُلُّ قَواعِدُ الاستِنبَاطِ الأرسطيَّةِ عَلى هَذا الشَّكلِ مِن الجُمَل.

لَا َيعتَرفُ فريجة بأهَمِّيَّةِ الأركَان ِ اللُّغَويَّةِ للجُملَةِ أَصلاً ويَعتَبـِرُ الجُملَةَ دَالَّةً مَنطِقِيَّةً يُمكِنُهَا أن تَأخُذَ عَدَداً غَيرَ مَحدودٍ مِن المُدخَلَات.

3- تُمَثِّلُ الدَّالةُ المَنطقيَّةُ مَفهُوماً نَاقِصاً لا َيكتَمِلُ إلَّا بإضَافَةِ مُصطَلَحَاتٍ تَرمُزُ إلى أشياءِ العَالم.

تَقومُ هَذه الدَّالةُ بإعطاءِ دَلالةِ “الصحَّةِ” أو”الخَطَأِ” لِهذِه المُصطلحاتِ وتُسمَّى مَجموعةُ المُصطلحاتِ الَّتِي تُعطِيهَا الدَّالةُ دَلالةَ “الصحَّةِ”: السَّردُ المَادِّيُ للدَّالةِ أو المَفهُوم.

لايُوجَدُ لَدَى أرسطو أيُّ مَفهومٍ للدَّالةِ ولَيستْ مَفَاهِيمُهُ إلَّا ِفئاتٍ لأشياءِ العالَم كَما ذَكَرنَا سَابِقا.

4- يُفَرِّقُ فريجة تَفريقاً مَبدئياً بَينَ المَعانِي والدَّلَاَلاتِ ويَعتبرُ الدَّلالاتِ أنواعاً مُعيَّنَةً مِن المَعانِي لَا يُمكِنُ الوصولَ إليهَا بالُّلغةِ الطَّبيعيةِ وَحدَها.

لَايوجُد مِثلُ هَذا التَّفريق ِ فِي نِظامِ أرسطو فالمَعانِي والدَّلَاَلاتِ هِي فِئاتُ الأشيَاء.

5- لَايَتِمُّ تَعميمُ الجُملِ عِندَ أرسطو إلَّا باستِخدامِ الأسوار ِ للمَوضوع ِ دونَ المَحمُول.

يَستطيعُ فريجة أن يَستخدمَ الأسوارَ مَع أيٍّ مِن المُصطلحاتِ فِي الجُّملةِ لأنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَينَ أركانِها كَمَا تُمَيِّزُ اللُّغَةُ الطَّبيعيةُ وَهُو يُتيحُ بِهذِه الطَّريقةِ إنتَاجَ عَدَدٍ غَيرِ مَحدودٍ مِن الدَّوالِ – وبالتَّالِي المَفاهيمِ – الجَديدَة.

6- طُرُقُ الإستنباطِ عِندَ أرسطو مَحدودةٌ بأشكالٍ ثابتَةٍ تَشترطُ وجودَ تَعبير ٍ وَسَطِيٍّ بَينَ الجُّمَلِ المَنطقيةِ المُفترضَةِ صِحَّتُهَا يَسمحُ باستنباطِ جُمَلٍ جَديدَة.

يُمكِنُ لِنظامِ فريجة استنباطُ نَفس ِ المَقولاتِ بِعَدَدٍ غَيرِ مَحدودٍ مِن الطُرُق ِ نَاتِج ٍ عَن استَخِدامِ العَمليَّاتِ المَنطقيةِ كاستَخدَامِ بول لَهَا مَع إضَافَةِ قُدراتٍ جَديدةٍ مُرتَبِطَةٍ بِتَخصيصِ الجُّمَلِ المُسَوَّرَة.

 

 

 

 

 

 

ولَقَد كَانَ مُتَوَقَّعاً لِنِظامِ فريجة أن يَنجَحَ فِي تَقديمِ أساس ٍ مَنطِقِيّ ٍ صَحيح ٍ لِأجزَاءٍ مُهِمَّةٍ مِن الرياضيَّاتِ (أَهمُها الرياضياتُ المدرسيَّةُ) لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي فَخّ ِ التَّناقُضِ المَنطقِيّ ِ لِمَفَاهِيمِهِ الأساسيَّةِ – كَمَا سَنَرَى فِي المَقطَعِ التَّالِي مِن هَذَا الجُزءِ – وَتَحَوَّلَ الفَشَلُ المَبدَئِيُّ فِي إيجادِ حَلٍّ لِهذَا التَّناقُضِ إلَى أَحَدِ أَهَمِّ مَصَادِر ِ الرُّؤَى السَّلبِيَّةِ الجَديدةِ الَّتِي أَلهَمَتْ كُلاً مِن راسل وجودل وتارسكي ومَن أَتَى بَعدَهُم مِن أَمثالِ تورنج وتشيرش تَحويلَ هَذَا العَجزِ إلى مَبدَأٍ رِياضِيٍّ مُطَّرِد.

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *