١- معضلة راسل

1-مُعضِلَةُ راسل

فَي العَامِ 1902 وبَينَمَا كَانَ فريجة يُحَضِّرُ لِنَشرِ الجُزءِ الثَّانِي مِن كِتَابِهِ: “القَوَاعِدِ” (6) تَلَقَّى رِسالَةً مِن الرِّياضيِّ والفَيلسوفِ برتراند راسل بَيَّنَ فِيها التَّنَاقُضَ المَنطِقِيَّ الَّذِي يُؤدِّي إلَيه تَعريفُ فريجة لل”مَفهومِ” إذَا طُبِّقَ علَى نَظَريَّةِ المَجموعَات.

وكَانَ لِهَذِهِ الرِّسالَةِ أثرٌ كَبيرٌعلَى المُجتَمَعِ العِلمِيِّ والرِّياضِيِّ وَقتَهَا حَيثُ عَنَتْ ظُهُورَ تَنَاقُضٍ جَذرِيٍّ غَيرَ قَابِلٍ لِلرفَعِ فِي أَهَمِّ مُحَاوَلَةٍ لِتَأسِيسِ الرِّياضِيَّاتِ عَلَى قَواعِدِ المَنطِق.

إضطَّرَ فريجة لِنَشرِ مِثالِ راسل المُعاكِسِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَدَرَ حِينَهَا بِالفِعلِ ولَم يَستَطِعْ تَقدِيمَ حَلٍّ لِلمُعضِلَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بَعدَهَا: “مُعضِلَةَ راسل” وَأَدَّتْ إلَى استِحدَاثِ مَا سَمَّاهُ راسل فِي كِتَابِهِ : “مَبادِيءِ الرِّياضيَّاتِ” (7) لَاحِقاً “نَظَرِيَّةَ الأنواعِ وَهُوَ حَلٌّ لِلمعُضِلَةِ يُقَيِّدُ استِخدَامَ المُتَغَيراتِ فِي التَّعابيرِ الرِّياضيَّةِ بِاعتِبَارِ أَنوَاعِهَا وَرُتَبِ هَذِهِ الَأنُواع.

لَكِنَّ هَذِهِ المُعضِلَةَ فَتَحَتْ البَابَ عَلَى مِصرَاعَيهِ بَعدَ ذَلِكَ لإيجَادِ أَمثِلَةٍ أُخرَى لِلعَجزِ العَقلِيِّ المَبدَئِيِّ شَبيهَةٍ أَو أَشَدَّ تَأثِيراً فِي أعمَالِ جودل وتارسكي.

سَنَحتاجُ هُنا لِشَرحٍ مُبَسَّطٍ لِطَبِيعَةِ التَّنَاقُضِ المَنطِقِيِّ المَقصُودِ وَطَريقَةِ ظُهورِهِ والَّذِي يُمكِنُنَا – لِحُسنِ الحَظِّ – إيضَاحَهُ باستِخدَامِ الأَحَاجِي (جَمعُ : أُحجِيَةٍ) المَنطِقِيَّةِ البَسيطَةِ والمَعروفَةِ مُنذُ زَمَنِ الإغرِيق.

لِنَتَأَمَّلَ أَوَّلاً مَعنَى الجُملَةِ ج=”هَذِه الجُملَةُ خَاطِئةٌ”

وَنَتَسَاءَلَ : هَل “ج” صَحيحةٌ أَم خَاطِئة ؟ إِن قُلنَا بأنَّهَا صَحيحةٌ فَهِي بالتَّالِي خَاطئةٌ لأنَّ هَذَا مَا تُصَرِّحُ بِهِ فِعلاً وإن قُلنَا بأنَّهَا خَاطِئةٌ فَتَكونُ حَتماً صَحيحَة.

كَيفَ يُمكنِنُا أن نُعطِي لِهَذِهِ الجُّملَةِ مَعنًى دُونَ أَن يُنَاقِضَ هَذا المَعنى قَواعِدَ المَنطقِ (وأَهَمَّهَا قَانونَ الثَّالِثِ المَرفوعِ) ؟

الجَوابُ : لَايُمكِنُنا فِعلَ هَذا وسَنُضطَّرُ إلَى اعتِبَارِ هَذه الجُّملَةِ – مَع كَونِها سَليمَةً بِمبنَاهَا – خَارِجَةً بِمَعنَاهَا عَن حُدودِ المَنطِقِ والعَقل.

مَاذَا لَو مَنَعنَا فِي لُغَتِنَا المَنطقيَّةِ الصُّورِيَّةِ إنشَاءَ الجُمَلِ – مِثلِ “ج” – والَّتِي تَتَكَلَّمُ عَن نَفسِهَا مُباشَرَةً ؟ هَل يَرتَفِعُ التَّنَاقُض ؟

الجُملَةُ ج_=”كُلُّ الجُّمَلِ المَثِيلَةِ لِهَذِه الجُملَةِ خَاطِئةٌ”

تُظهِرُ لَنَا بَقَاءَ التَّنَاقُضِ عَلَى حَالِهِ لأنَّ “كُلَّ الجُّمَلِ المَثِيلَةِ” لِ”ج_” تَحتَوي بِالتَّأكِيدِ عَلى “ج_” نَفسِها.

أَقرَبُ مِن هَذَا المِثالِ إقنَاعاً الأحجِيَةُ التَّالِيَةُ :

إذا عَرَّفنَا “المُدَرِّسَ” عَلى أنَّه “ذَلِكَ الشَخصُ الَّذِي لَا يُدَرِّسُ المَنَاهِجَ التَّعليمِيَّةَ إلَّا لَّلذِينَ لَا يُدَرِّسونَهَا لأنفُسِهِم”

فإِنَّ السُّؤالَ التَّالِيَ يَطرَحُ نَفسَهُ : هَل يُدَرِّسُ المُدَرِّسُ المَنَاهِجَ التَّعلِيمِيَّةَ لِنَفسِه ؟ إِن دَرَّسَهَا لِنفسِهِ فَيَنبَغِي عَلِيهِ – حَسبَ التَّعريفِ – أَن لَا يُدَرِّسهَا لِنَفسِه وإِن لَم يُدَرِّسهَا لِنَفسِهِ وَجَبَ عَلَيهِ تَدرِيسَهَا نَفسَه.

كِلتَا الحَالَتَينِ بِهَا تَنَاقُضٌ يَجعَلُنَا نَستَنبِطُ أَنَّ تَعريفَ “المُدَرِّسِ” بِهَذَا الشَّكلِ غَيرُ مُمكِنٍ مَنطِقِيّاً (تَنتَشِرُ هَذهِ الأُحجِيَةِ عَادَةً عَن مَفهومِ “الحَلَّاقِ” وَتُسَمَّى: أُحجيَةُ الحَلَّاقِ).

لِلوهَلَةِ الأُولَى قَد يَظُنُّ القَارِئُ أنَّ جُمَلَ المَرجِعِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَتَسَبَّبُ فِي هَذا التَّنَاقُض ِمَا هِيَ إلَّا تَعَابيرُ اصطِناعِيَّةٌ لَيسَتْ ذَاتَ شَأنٍ عَمَلِيٍّ سِوى أَن تُظهِرَ مُشكِلَةً فِي بَعضِ جُمَلِ اللُّغَةِ الطَّبيعِيَّةِ لِغَرَضٍ أكاديمِيٍّ بَحت.

إلَّا أنَّ هَذا الظَّنَ تُبَدِّدُهُ مَعرِفَةُ أَنَّ مُعظَمَ الدَّوالِ الرياضِيَّةِ المَشهورَةِ تُعَرَّفُ باستِخدامِ المَرجِعيِّةِ الذَّاتِيَّة وَهَذا مَا يَجعَلُ تَعريفَهَا عُرضَةً لِلتَنَاقُض.

هَذا بِالضَبطُ مَا وَضَّحَهُ راسل لِفريجة فِي رِسَالَتِهِ حَينَ أعطَاهُ المِثَالَ التَّالِي:

مَا هوَ مَفهومُ: “المَفهومِ م الَّذِي لَا نَستَطِيعُ أَن نَنسِبَهُ لِنَفسِه” ؟

لِلتأَكُّدِ مِن وجودِ مِثلِ هَذهِ المَفاهِيمِ فِعلاً يَكفِي أَن نَتَأَمَّلَ الفَرقَ بَينَ مَفهومَي : “المِلعَقَةِ” و”المَفهوم”.

فالأَوَّلُ لَا نَستطِيعُ وَالثَّانِي نَستَطِيعُ نِسبَتَهُ لِنَفسِهِ (بِمَعنِى أنَّنَا لَا نَستطيعُ أَن نَقولَ عَن “مَفهوم ِالمِلعَقَةِ” أنَّهُ مِلعَقَةٌ لَكِنَّنَا نَستَطيعَ أَن نَقولَ عَن “مَفهومِ المَفهومِ” أَنَّهُ مَفهوم).

بِحَسبِ فريجة يُمكنِنُا لِأيِّ “م” إنشاءَ سردية(م) وَهِيَ المَجموعَةُ الَّتِي تَحتَوي عَلى كُلَّ الأشياءِ الَّتِي يُعطِيهَا “م” دَلَالَةَ “الصِّحَةِ” كَمَا رأينَا فِي المَقطَعِ السَّابِق.

فَهَل تَحتَوي سردية(م) عَلى “م” ؟

إِن احتَوَتْ عَلَيه فَإنَّهُ يُمكِنُنَا أَن نَنسِبُهُ لِنَفسِهِ إذاً – فِي مُخَالفَةٍ صَريحَةٍ لِلتَّعريفِ – وإِن لَم تَحتَوِ عَلَيه فَكَانَ يَنبَغِي لَهَا أَن تَحتَوِي عَلَيه بِحَسَبِ التَّعريفِ أيضا. بالتَّالِي : لَا يُمكِنُ أَن يَكونَ “م” مَفهُوما صُورِيّاً فِعلاً.

يَخلُصُ راسل مِن هَذا المِثالِ البَسيطِ إلى عَدَمِ وجودِ مَفهومٍ مَنطِقِيٍّ غَيرِ مُتَناقِضٍ لِمَجموعةِ المَجموعَاتِ الَّتِي لَاتَحتَوي عَلى نَفسِها فِي نِظامِ فريجة.

بَيَّنَ هَذا الاكتِشافُ ضَرورَةَ الفَصلِ الصُّورِيِّ بَينِ مَفهومَي “المَجموعةِ” و”الفِئة” وَوجودَ مَفاهِيمَ مَنطقيَّةٍ مَعنَويَّةٍ لَا يُمكِنُ سَردُهَا مَادِيّاً وَهوَ مَا يُعتَبَرُ إلى يَومِنَا هَذا مِن الأُسُسِ الرياضيَّةِ الهَامَّة.

 

 

1 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published.