١- الكَمَالُ المَعنَوِيُّ

رَأينَا فِي المَقطَعِ السَّابِقِ العَديدَ مِن الأمثِلَةِ عَلى أَثَرِ التَّناقُضِ النَّاشِيءِ عَن التَّعَابيرِ ذَاتِ المَرجعيَّةِ الذَّاتيَّةِ عَلى مَشروعِ تَأسيسِ الرِّياضِيَّاتِ عَلى أُسُسٍ مَنطقِيَّةٍ ثَابِتَةٍ مِن نَاحِيَةٍ وقَابليَّةِ حَلِّنَا لِلمَشاكِلِ بِواسِطَةِ الطَّريقَةِ الخَوارزمِيَّةِ مِن نَاحيَةٍ أُخرَى.

وَلقَد أَدَّتْ هَذه المَعَارِفِ السَّلبِيَّةِ إلَى إفشَالِ أَهَمِّ أَهدافِ مَشروعِ دافيد هلبرت الطَّموحِ الَّذِي أَعلَنَهُ فِي مُؤتَمَرِ الرِّياضِيَّاتِ العّالَمِيِّ الثَّانِي سَنَةَ 1900 فِي باريس واستَهدَفَ بِهِ تَوجِيهَ أنظَارِ البَاحثينَ والرِّياضييِّنَ فِي أنحَاءِ العَالَمِ إلَى أَهَميَّةِ الحَلِّ الأيجَابِيِّ لِثلاثَةٍ وعِشرينَ مَسأَلَةً مَفتوحَةً وَاجَهَتْ الرِّياضياتِ وَقتَهَا كَانَ عَلَى رأسِهَا إيجادُ نِظامٍ مَنطِقِيٍّ مُتَكَامِلٍ وَغَيرِ مُتَنَاقِضٍ تَنبَنِي عَليهِ النَّظَريَّاتُ الرِّياضِيَّةُ وَيتيحُ إثباتَهَا أو نَفيَهَا أيّاً كَانَتْ دَرَجَةُ صُعُوبَتِها.

وَلَقَد كَانَ لِجودل الفَضلُ الأَكبَرُ فِي تَحويلِ المَفهومِ العَّامِ وغَيرِ المُحَدَّدِ وَقتَئِذٍ لِلمَقصودِ بِالكَمَالِ المَنطِقِيِّ لِلنِظامِ الصُّورِيِّ الرِّياضِيِّ إلَى مَفهومَينِ مُختَلِفَينِ يُمَثِّلَانِ وِجهَتَي نَظَرٍ مُتباينتيَنِ لَكِنَّهُمَا فِي نَفسِ الوَقتِ مُكَمِّلَتَانِ لِبعَضِهِمَا ولُنَسِمهِما هُنا : وِجهَةَ النَّظَرِ المَعنَوِيَّةِ ووِجهَةَ النَّظَرِ الاستِنبَاطِيَّة.

بَيَّنَ جودل فِي الأُطروحَةِ الَّتِي نَالَ عَليهَا دَرجةَ الدُّكتوراه فِي العِامِ 1929 أَنَّ مَنطِقَ فريجة إِن تَمَّ قَصرُهُ عَلى الدَّرَجَةِ الأُولَى (أَي تِلكَ الَّتِي لَا تُستَخدَمُ فِيهَا الأسوارُ لِتَعمِيمِ المُتَغَيّرَاتِ المُعَبِّرَةِ عَنِ الدَّوالِ وَتَرتَبِطُ فِيهَا بَاقِي المُتَغَيِّراتُ بأَسوارٍ كُلِّيةٍ أو جُزئيَّةٍ) كَامِلٌ مَعنَوِياً.

تَهتَمُّ وِجهَةُ النَّظَرِ المَعنَوِيَّةِ هَذِهِ بِعَلَاقَةِ المَعَانِي بِالمَبَانِي (أَي بالتَّعَابِيرِ الَّتِي يُمكِنُنَا إنشَاءَهَا فِي المَنظومَةِ الصُّورِيَّةِ مَحَلِّ الدِّراسَةِ) وَتَستَلزِمُ وجودَ مَعَانٍ لِكُلِّ التَّعَابيرِ السَّليمَةِ حَتَّى نَستَطِيعَ إطلاقَ صِفَةِ الكَمَالِ عَليهَا.

تَتَكَوَّنُ المَعَانِي فِي مَنطِقِ فريجة مِنَ الأشيَاءِ ومَفَاهِيمِهَا (أَو الدَّوالِ المُعَرَّفَةِ عَلَيهَا) كَمَا رَأينَا. فإن فَرَضنَا أنَّ “م” هِيَ أَيُّ مَجموعَةٍ مِنَ التَّعَابيرِ السَّليمَةِ المُمكِنِ إنشَاؤُهَا فِي النِّظامِ الصُّورِيِّ وَ”ج” تَعبيرٌ إضَافِيٌّ – مَحَلُّ التَحَقُّقِ – يَكونُ شَرطُ الكَمَالِ المَعنَويِّ مُمَثَّلاً فِي العَلاقَةِ (الَّرمزُ: “≡” يَعنِي فِيمَا يَلِي:” إذا وإذا فقط”) :

(م || ج)≡(م | ج)

حَيثُ يُفهَمُ مِنَ التَّعبيرِ: “(م || ج)” أنَّ كُلَّ الأَشياءِ والمَفاهيمِ الَّتِي تُحَقِّقُ مَعَانِيهَا الجُّمَلَ فِي “م” (أَي تُعطِي هَذِهِ الجُّمَلَ قِيمَةَ “الصحَّةِ”) تُحَقِّقُ أَيضاً الجُّملَةَ “ج”.

أمَّا “(م | ج)” فَيَعنِي أَنَّهُ يُمكِنُنَا استِنبَاطَ “ج” مِن “م” بِطُرُقِ الاستِنبَاطِ الصُّورِيِّ الَّتِي يَحتَويهَا النِّظام.

فَيَكونُ مَفهومُ عَلاقَةِ الكَمَالِ المَعنَويِّ السَّابِقَةِ إذاً :

أنَّ لِكُلِّ تَعبيرٍ ذِي مَعنىً في كُلِّ نَماذِجِ المَعانِي المُمكِنَةِ (هَذَا التَّعبيرُ يُسمَّى عَادَةً: تَعبيراً صَالحاً) طَريقَةَ استِنبَاطٍ صُورِيٍّ

أَو أنَّ هُناكَ تَكَافُؤاً بَينَ عَلَاقَتَي الاستِنبَاطِ المَادِيِّ  والاستِنبَاطِ المَعنَوِيّ

أَو أَنَّ النَّظَرِيَّةَ مَحَلَّ الدِراسَةِ غَيرَ مُتَنَاقِضَةٍ (لِأنَّنَا لَا يُمكنِنُا أَن نُثبِتَ “ج” وَعَكسَهَا مِن “م”).

مَا الَّذِي نَعنِيهِ فِيمَا سَبَقَ ب”نَمَاذِجِ” المَعَانِي ؟

بِمَا أَنَّنَا جَرَّدنَا الأَلفاظَ والكَلِماتِ مِن مَعَانِيهَا الُّلَغوِيَّةِ واعتَبَرنَاهَا دَالَّةً إمَّا عَلى أَشياءِ العَالَمِ أَو عَلى مَفاهِيمِنَا عَن هَذهِ الأَشياءِ فإنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلينَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ نُريدُ فِيهَا أَن نَفهَمَ المَقصودَ مِنَ التَّعبيرِ :

“يحب(قيس,ليلى)”

مَثَلاً أَن نُحَدِّدَ هَذهِ الدَّلَالَةَ بِدِقَّةٍ فَتَكونُ “ليلى” وَ”قيس” أَسماءً لأَشياءَ مُعَيَّنَةٍ فِي عَالَمِنَا بَينمَا تُعَبِّرُ العَلاقَةُ “يحب” عَلَى مَا نُريدُ التَّعبيرَ عَنهُ فِي السِّياقِ الَّذِي استَدعَى إنشَاءَ هَذا التَّعبِير.

قَد نَقصِدُ بِالحُبِّ العَلاقَةَ العُذريَّةَ المَشهورةَ بَينَ شَخصَي قَيسٍ وَليلَى التَاريخِييَنِ إلَّا أنَّ هَذا النَموذَجَ لَيسَ الوَحيدَ المُمكِنَ لِمَعنَى هَذهِ الجُملَة.

بِإمكَانِنَا أَن نَقصِدَ أيضاً أنَّ أَحَدَ مَعَارِفِنَا – ويُسمَى قيسٌ – لَايَشعُرَ بِالكُرهِ تِجَاهَ زَمِيلَتِهِ فِي العَمَلِ لَيلَى وإنَّمَا بالتَّقديرِ والإعجَاب.

هَذَانِ النَّموذَجَانِ مُختَلِفَانِ مَعنَويّاً تَماماً ويُوضِحَانِ مَا نَقصِدُهُ ب”نَمَاذِجِ المَعَانِي”.

هل نَستَطيعُ تَحقيقَ التَّعبيرِ:

“يحب(ليلى,قيس)”

وَبِشَكلٍ عَامٍّ عَلَاقَةَ التَّنَاظُرِ :

“لكل(س), لكل(ص): (يحب(س,ص) > يحب(ص,س)”

فِي النَّموذَجَينِ السَّابِقَين ؟ بِاعتِبَارِ النَّموذجِ الَّذِي بِهِ شَخصِيَّتِي قَيسٍ وَليلَى التَّاريخيَّتَينِ فَإنَّنَا نَعرِفُ أنَّ عَلاقَةَ الحُبِّ كَانَتْ مُتَبَادَلَةً وَتَكونُ الجُملَةُ:

“يحب(ليلى,قيس)”

صَحيحَةً بِهَذَا المَعنَى.

لَكِنَّنَا لَا نَملِكُ دَليلاً عَلى أنَّ التَّقديرً والإعجابَ بَينَ زُمَلاءِ العَمَلِ هُو عَلاقَةٌ مُتَنَاظِرَة.

هُناكَ بِالتَّالِي نَموذَجٌ مَعنَوِيٌّ وَاحِدٌ عَلى الأقَلِّ لَا يَسمَحُ بِالمَعنَى الَّذِي نُرِيدُ وَهوَ مَا يَجعَلُ عَلاقَةَ التَّنَاظُرِ غَيرَ صَالِحَةٍ لكُلِّ النَّمَاذِجِ ولَا ُيمكِنُ أَن يَكونَ لَهَا إثبَاتٌ صُورِيٌّ إذاً فِي سِيَاقِ مَفهومَي “الحب” المُبَيَّنَينِ حَسبَ نَظريَّةِ جودل.

لِتَحديدِ المَعَانِي الصُّوريةِ لِتَعبيرَاتِ مَنطقِ فريجة بِشَكلٍ دَقيقٍ نَحتَاجُ إلَى مَجموعَتَينِ : الأشياءِ (ش) والمَفاهيمِ (م) وهُمَا تُستَخدَمَانِ – فِي نَظَرِيَّةِ المَعَانِي الحَديثَةِ – بِشَكلٍ رَئيسيٍّ لإنشَاءِ هَيكَلٍ رِيَاضِيِّ

هـ=(ش , م)

نُطلِقُ عَليهِ اسمَ : “النَّموذَجِ المَعنَوِيِّ” لِلتَّعَابيرِ المَنطِقِيَّةِ ويَحتَوي عَلى التَّعريفَاتِ اللَّازِمَةِ لِكُلِّ الكَلِمَاتِ المُستَخدَمَةِ وَنُنشِئُ هَذهِ التَّعريفاتِ عَلى شَكلِ دوالٍ مَنطِقِيَّة.

يُوَضِّحُ الشَّكلُ – 2 بِمِثالٍ عَمَلِيِّ تَطبِيقَ نَظَرِيَّةِ جودل عَلى التَّعبيرِ:

“لكل(س): (ع(س,س) > (لكل(س),يوجد(ص): ع(س,ص)))”

والَّذِي يَعنِي إمكَانِيَّةَ استِبدَالِ أَيِّ مُتَغَيَّرٍ مَنطِقِيٍّ بِنَظيرٍ لَهُ بِشَرطِ إضَافَةِ سُورٍ جُزئِيٍّ وُجودِيٍّ لِرَبطِ المُتَغَيِّرِ الجَديدِ وَعَدَمِ تَركِهِ حُرّاً بِلَاسُور.

الدَّوائِرُ فِي الشَّكلِ تَرمُزُ إلَى النَّمَاذِجِ المَعنَوِيَّةِ المُختَلِفَةِ وَالَّتِي نُظهِرُ مِنهَا ثَمَانِيَةُ نَمَاذِجَ فَقَط مَنعاً لِلإطالَة.

كُلُّ هَذِهِ النَّمَاذِجِ تُحَقِّقُ التَّعبِيرَ السَّابِقَ ونُلاحِظُ يَميناً فِي الشَّكلِ طَريقَةَ استِنبَاطِ التَّعبيرِ بِاستِخدامِ قَوَاعِدِ استِنبَاطِ نِظامِ فريجة.

 يُمكِنُنَا أَن نَتَبَيَّنَ مِن خِلالِ دِراسَتِنَا لِلنَموذَجِ الثَّامِنِ – مَثَلاً- أَنَّهُ يَحتَوِي عَلى شَيئينِ مُختَلِفَينِ

(نُقطَتَينِ سَودَاوَينِ فِي الشَّكلِ : “ن1” إلَى اليَسَارِ, “ن2” إلَى اليَمينِ) بَينَهُمَا عَلَاقَةٌ – إِضَافَةً إلَى عَلَاقَةِ كُلِّ شَيءٍ مِنهُمَا بِنَفسِه – وَهوَ مَا يُحَقِّقُ الجُّزءَ الأَوَّلَ مِنَ التَّعبِير:

“لكل(س): (ع(س,س)”

حَيثُ أَنَّ الجُّمَلَ “(ع(ن1, ن1)” و”(ع(ن2, ن2)” هِيَ جُمَلٌ صَحيحَة.

يَتَحَقَّقُ الجُزءُ الثَّانِي مِنَ التَّعبيرِ أيضاً بِتَحَقُّقِ :

“(ع(ن1 , ن2)” لِ “ن1” و “(ع(ن2, ن2)” لِ “ن2

فَلَيسَ هُناكَ فِي التَّعبيرِ مَا يَشتَرطُ اختِلَافَ “س” عَن “ص”.

شكل – 2

24 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published.