فِي صَيفِ العَامِ 1930 – أَي بَعدَ عَامٍ مِن أُطروحَتِهِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا الكَمَالَ المَعنَوِيَّ لِمَنطِقِ فريجة – بَدَأَ جودل فِي مُحاولةِ إثبَاتِ عَدَمِ تَنَاقُضِ أفرُعِ الرِّياضِيَّاتِ بِشَكلٍ عَامٍ وَفَرعِ التَّحليلِ الرِّياضِيِّ بِشَكلٍ خاص
كَانَ هيلبرت يُحاولُ وَقتَهَا استِخدَامَ وَسائِلِ الرِّياضِيَّاتِ النِّهَائيَّةِ (أَي تِلكَ الَّتِي تَعتَمِدُ عَلى وُجودِ نَمَاذِجَ مَعنَوِيَّةٍ ذَاتِ عَدَدٍ نِهائِيٍّ مِن الأَشياءِ) لإيجَادِ مِثلِ هَذَا الإثبَات
لَكِنَّ هَذه الوَسائلِ لَم تَكُنْ نَاضِجَةً بِدرجةٍ كَافيةٍ وَقتَئِذٍ فَكَرَّسَ جودل جُهدَهُ لِمُحاولةِ إثبَاتِ عَدَمِ التَّنَاقُضِ بِاستِخدَامِ نَظَرِيَّةِ الأعدَادِ الطَّبيعيَّةِ (ط) ودُونَ التَّقَيُّدِ بأيٍّ مِن تِلكَ الوسَائِل
لِفِعلِ هَذا إضطرَّ إلَى تَعريفِ الأعدادِ الحَقيقيَّةِ باستِخدَامِ خَواصِ الأعدادِ الطَّبيعِيَّةِ وَتوَصَّلَ إلَى أنَّهُ – لإثباتِ فَرَضِيَّاتِ التَّحليلِ الرِّياضِيِّ الرَّئيسيَّةِ بِهذِهِ الطَّريقَةِ – يَحتاجُ لِتعريفِ مَفهومِ الحَقيقةِ فِي نَظَرِيَّةِ الأعدَادِ الطَّبيعِيَّةِ بِشكلٍ كَامِلٍ وَمُنضَبِطٍ أوَّلاً
قَامَ – لِفعلِ هَذا – بِتَرقِيمِ التَّعابيرِ المُمكِنِ إنشَاؤُهَا كَمَا سَبَقَ أَن ذَكرنَا لِيكتَشِفَ سريعاً أنَّ مِثلَ هَذا التَّرقيمِ الَّذِي يُسَهِّلُ استِخدَامَ المَرجِعِيَّةِ الذَّاتِيَّةَ فِي الجُمَلِ لابُدَّ أَن يُؤَدِّي إلَى نَفسِ التَّنَاقُضِ الَّذِي ظَهَرَ لِراسل
لَم يَكُنْ مُمكِناً إذاً تَعريفُ مَفهومِ الحَقيقةِ المَنطقِيَّةِ لِنظريةِ الأعدادِ الطَّبيعِيَّةِ دَاخِلَ مَنظومةِ هَذِهِ الأَعدادِ نَفسِهَا
مَاذَا عَن مَفهومِ الاستِنبَاط ؟
ظَهَرَ لَهُ جَليّاً أنَّ مَفهومَ “الاستِنبَاطِ” يُمكِنُ تَعريفُهُ دَاخِلَ المَنظومَةِ المَنطِقِيَّةِ الصُّورِيَّةِ بِاستِخدامِ مَبَادِيءَ أوَّلِيَّةٍ وَبِطريقَةٍ تَوَافِيقِيَّةٍ مُباشرةٍ (أَي بِطريقَةٍ تَعتَمِدُ فَقَط عَلى التَّبَاديلِ والتَّوافِيقِ المُمكِنِ إنشَاؤهَا مِنَ التَّعابيرِ المَنطقيَّةِ) وَذَلكَ لارتِباطِهِ بِتطبيقِ قَواعِدِ استنبَاطٍ مُحَدَّدَةٍ لَايُمكِنُ أَن تُؤدِي عَلى أَكثَرِ تَقديرٍ إلَّا إلَى مَجمُوعاتٍ لَاِنهائيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلعَدِّ مِنَ التَعابيرِ المُستَنبَطَة
بِمَعنًى آَخَرَ : لَاحظَ جودل – وَلأَوَّلِ مَرَّةٍ – أنَّهُ يُوجَدُ فِي أيِّ نِظامٍ صُورِيٍّ مَنطِقِيٍّ عَامَّةً وَفي نِظامِ الرِّياضياتِ مَحَلِّ دِراسَتِهِ خَاصَّةً فَرقٌ جَوهَرِيٌّ بَينَ مَفهُومَي الاستِنباطِ المَنطِقِيِّ والحَقيقةِ المَنطِقِيَّة
فَبَينَمَا يَتعَيَّنُ عَلينا رَبطُ مَفهومِ الاستِنباطِ بِالطَريقّةِ الخَوارزميَّةِ لأنَّ هَذا الاستِنباطَ مَرهونٌ دَائماً بوجودِ مَجموعةِ قَواعِدٍ مُعَيَّنَةٍ ومُفتَرَضَةٍ مُسبَقاً يَتِمُّ تَطبِيقُهَا بِشَكلٍ صُورِيٍّ مُمَنهَجٍ فَإنَّهُ يُمكِنُنَا فِي نَفسِ الوَقتِ أَن نُنشِيءَ –بِالتَّعويضِ الإملَائِيِّ المُبَاشِرِ وَدُونَ الحَاجَةِ إلَى قَواعدٍ – تَعابيرَ لُغَويَّةً تُؤدِّي إلَى تَنَاقُضَات
تَبَيَّنَ لَهُ إذاً أنَّ مَجموعةَ الجُّمَلِ المُمكِنِ فِعلِيّاً استِنبَاطُهَا مِن أَيَّةِ فَرَضِيَّاتٍ – فِي مَنطِقِ فريجة – هِيَ عَلى أَكثَرِ تَقديرٍ مَجموعَةٌ قَابِلَةٌ لِلعَدِّ بَينَمَا مَجموعَةُ الحَقائِقِ المَعنَوِيَّةِ النَّاشِئةِ عَن هَذهِ الفَرَضِيَّاتِ لَيستْ كَذَلِك
أَدَّتْ هَذِهِ المُلاحَظَةُ إلَى نَظَريَّةِ عَدَمِ الكَمَالِ الأُولَى (لِسنَةِ 1931) وَالَّتِي استَخدَمَ فِيهَا جودل مَعنًى ثَانٍ لِلكَمَالِ – كَانَ المَعنَى المَقصودَ مِن هيلبرت حِينمَا طَرَحَ مَشروعَهُ للرِياضِيَّاتِ – وهوَ : إمكَانِيةُ استِنبَاطِ أّيِّ تَعبيرٍ لُغَوِيٍّ أو عَكسِهُ باستِخدَامِ قَواعِدِ استِنبَاطِ النِّظامِ المَنطِقِيِّ مَحَلِّ الدِّراسَة
كَانَ عَلَى جودل أَن يَستخدِمَ فِي بُرهانِهِ نِظاماً بِهِ قَواعدُ استِنبَاطٍ مَعروفَةٍ – مِثلَ الرِّياضياتِ المَدرسِيَّةِ المُمَثَّلَةِ بفَرَضِيَّاتِ بيانو الشَّهيرَةِ – ثُمَّ يُنشِيءُ تَعبيراً سَليماً “ج” فِي هَذَا النِّظامِ ويُبَيِّنُ خُروجَهُ عَن نِطاقِ تَطبيقِ قَواعدِ الاستِنبَاطِ عَلى مَجموعةِ التَّعابيرِ الصَّحيحةِ “م” بِحيثُ لَا يُمكِنُ إثباتُ “ج” أَو “عكس(ج)” من م
:أَي أنَّهُ كَانَ عَليهِ فِي الحَقيقةِ ايجَادُ جُملَةٍ “ج” بِحيثُ يَكونُ
(م || ج)
:لَكِنْ
(ليس(م | ج
أَلَيسَ فِي هَذَا تَنَاقُضٌ مَع نَظَرِيَّتِهِ عَن الكَمَالِ المَعنَويِّ الَّتِي نَتَذَكَّرُ أَن أَحَدَ مَعَانِيهَا كَان
?”هُناكَ تَكَافُؤٌ بَينَ عَلَاقَتَي الاستِنبَاطِ المَادِيِّ والاستِنبَاطِ المَعنَوِيّ”
إذَا انتَبَهنَا أنَّ هَذَا التَّكَافُؤَ مُرتَبِطٌ بِالتَّعابيرِ الصَّالِحَةِ فَقَط (أَي الصَّحيحةِ فِي كُلِّ النَّماذِجِ المُمكِنَةِ) – كَمَا رَأينَا فِي المَقطَعِ السَّابِقِ – تَبَيَّنَ لَنَا أنَّهُ لَا تَعارُضَ بَينَ هَذِهَ النَّتيجَةِ والكَمَالِ المَعنَوِيِّ لِأنَّ إثباتَ عَدَمِ الكَمالِ الاستِنبَاطِيِّ لِلنِّظامِ المَنطِقِيِّ المَبنِيِّ عَلى فَرَضِيَّاتِ بيانو إنَّمِا يَعنِي وُجودَ نموذَجٍ غَيرِ تَقليدِيٍّ لِلرياضيّاتِ المَدرَسِيَّةِ لَا يُحقِّقُ التَّعبيرَ “ج” وَهوَ مَا تَمَّ اكتِشَافُهُ بَعدَ ذَلِكَ بِالفِعل