١- اللُّغَةُ الطَّبيعيَّةُ مِن مَنظورِ فريجة

ذَكَرنَا سَابِقاً أنَّ الدِّراساتِ المَنطِقِيَّةَ لِلُّغَةِ كَانَتْ وَليدَةَ الحَرَكَةِ العِلمِيَّةِ الَّتِي وَاكَبَتْ بِدايَاتِ الثَّورَةِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي أوروبا وَتَحَوَّلَ فِيهَا المَنطِقُ مِن أداةٍ نَظَرِيَّةٍ بَحتَةٍ إلَى آلَةٍ عَمَلِيَّةٍ يُرجَى مِنهَا إنتاجُ المَعارِفِ الجَديدَةِ أَو عَلَى الأَقَلِّ المُساعَدَةُ فِي التَّحَقُّقِ مِن صِدقِ وَصِحَّةِ النَّتَائِجِ العِلمِيَّةِ المُتَلَاحِقَةِ فِي مَجَالَاتِ العُلومِ المُختَلِفَةِ وبِخَاصَّةٍ مَجَالَي الفِيزياءِ والرِّياضيَّات

وَلَقَد كَانَ فريجة – فِي مُوَاكَبَةٍ لِروحِ العَصرِ – هُوَ أَحَدُ أَهَمِّ مُنتَقِدِي الُّلغاتِ الطَّبيعِيَّةِ مِن وِجهَةِ النَّظَرِ المَنطقيَّةِ وَدَاعِياً دَؤُوباً لِإنشَاءِ لُغَةٍ عِلمِيَّةٍ مِثَالِيَّةٍ عَلَى نَمَطِ مَا بَشَّرَ بِه سَلَفُهُ لايبنيتز الَّذِي يُعَدُّ – مَعَهُ – أباً رُوحيّاً لِمَا سُمِّيَ بَعدَ ذَلِكَ (مِن خِلالِ أَعمَالِ راسل ووايتهيد وفيتجنشتاين الشَّابِ ثُمَّ كارناب وَمَجموعَةِ فِيينَّا): المَاديَّةَ المَنطِقيَّة

بَنَى فريجة انتِقَادَاتُهُ لِلُّغاتِ الطَّبيعيَّةِ وَالَّتِي مَثَّلَتهَا فِي مَنظورِهِ اللُّغاتُ اللاتِينيَّةُ فَقَط (لَيسَ هُناكَ أَيُّ دَليلٍ عَلَى إلمَامِهِ أَو اطِّلَاعِهِ عَلَى أَنواعٍ أُخرَى مِنَ اللُّغَاتِ) عَلى المُلاحَظَاتِ التَّالِيَة

 1-عَدَمُ قُدرَةِ هَذِهِ اللُّغَاتِ عَلى التَّفرِقَةِ بَينَ الأشياءِ وَمَفَاهيمِهَا بِشَكلٍ رَمزِيٍّ مَلمُوس

فَبَينَمَا تُمَثِّلُ الجُمَلُ الإنجليزيَّةُ الآتيَةُ

”this is a horse”=ج1

”this horse is black”=ج2

”the horse is a vegeterian”=ج3

دَلَالَاتٍ مُختَلِفَةٍ مَنطِقِيّاً نَضطرُّ إلَى استِخدامِ لَفظَةِ

“horse”

لِلتَّعبيرِ عَنهَا كُلِّهَا دَونَ تَمييزٍ رَمزيٍّ ظَاهِرٍ. تَتَكَلَّمُ “ج2” عَن شَيءٍ مُحَدَّدٍ بَينَمَا تُعَبِّرُ “ج1” عَن مَفهومٍ وَ”ج3” عَن نَوعٍ أَو فَصيلَةٍ كَامِلَة

بِالنِسبَةِ إلَى فريجة فَإنَّ مِن أَهَمِّ صِفاتِ اللُّغَةِ المَنطِقِيَّةِ المِثَالِيَّةِ وُجودَ فَرقٍ بَينَ المَفَاهِيمِ وَالأشياءِ وَإمكَانِيَّةِ إسقَاطِ هَذا الفَرقِ عَلى أَنواعِ الرُّموزِ المًستَخدَمَةِ فِي التَّعابيرِ اللُّغَويَّة والسَّبَبُ الأَعمَقُ لِهَذا الشَّرطِ يَكمُنُ فِي أنَّهُ يَعتَبِرُ مُهِمَةَ المَنطِقِ الرَّئيسيَّةِ إكمَالَ الرُّموزِ نَاقِصَةِ المَعَانِي فِي الجُّمَلِ (وَقَد رَأينَا فِيمَا سَبَقَ أنَّهُ أسمَاهَا: “دَوالاً” أَو “مَفاهِيمَ”) وَإمكَانِيَّةَ التَّفرِقَةِ بَينَ الألفَاظِ التي أسمَاهَا : “مُشبَعَةً” (أَي تُعَبِّرُ عَن أشياءَ فِعليَّةٍ فِي العَالَمِ) وَغَيرِ المُشبَعَة

وَهُنَا تَجدُرُ الإشَارَةُ إلَى طَريقَةِ التَّسمِيَةِ المُثلَى فِي اللُّغَةِ المَنطِقِيَّةِ الكَامِلَةِ حَسبَ فريجة: فَهوَ يَعتَبِرُ أَيَّ تَعبيرٍ مَنطِقِيٍّ دَالٍ عَلَى شَيءٍ وَاحِدٍ فَقَط إسماً مَقبولاً (حَتَّى وَإن كَانَ جُملةً كًامِلَةً) وَمَاعَدَا ذَلِكَ تُعَبِّرُ الجُّمَلُ عِندَهُ عَن مَفَاهِيم

2- قُدرَةُ اللُّغَةِ الطَبيعيَّةِ عَلى استِخدَامِ أَسماءٍ لَا تُمَثِّلُ أشيَاءَ بِعَينِهَا: وَقَد استَشهَدَ فريجة عَلَى ذَلِكَ بِالعَديدِ مَنَ التَّعابيرِ مِنهَا – عَلَى سَبيلِ التَبسيطِ بِاللُّغَةِ العَربيَّة –

“الجِسمُ السَّمَاوِيُّ الأبعَدُ عَنِ الأرضِ”

أَو

“أَقَلُّ مُتَوَالِيَةٍ رِياضِيَّةٍ تَقتَرِبُ مِن قِيمَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِشَكلٍ سَريعٍ”

.وَالَّتِي تُمَثِّلُ مَفاهيمَ مَنطقِيَّةً خَالِيَة

لَا َينبَغِي لِلُغَةِ المَنطِقِ المِثَالِيَّةِ لَدَى فريجة أَن تُنشِيءَ تَعابيرَ سَليمَةً لَا َتدُلُّ عَلَى شَيءٍ في الحَقيقَة وَقَد بَرَّرَ بَعدَ ذَلِكَ فَشَلَ نِظَامِهِ فِي التَّعبيرِ عَن مَفهومِ المَجموعَةِ الَّذِي لَا يَحتَوِي نَفسَهُ (وَهوَ حَسبَ مُعضِلَةِ راسل الَّتِي تَكَلَّمنَا عَنها فِيما سَبَقَ مَفهومٌ خَالٍ) بِالاعتِرافِ بِأنَّ إمكَانِيَّةَ تَسمِيَةِ مَجموعاتٍ خَالِيَةٍ فِي اللُّغَةِ قَادَتهُ إلَى الاعتِقَادِ الخَاطِيءِ بِأنَّ الأعَدَادَ وَالمَجمُوعاتِ هِيَ فِي الحَقيقَةِ أشياءُ مَنطِقِيَّة

3- عَدَمُ دِقَّةِ المَفاهيمِ المُستَخدَمَةِ لإسنَادِ صِفاتٍ إلَى الأشيَاء. مِنَ البَديهِيِّ أنَّهُ لَايُوجَدُ تَعريفٌ جَامِعٌ مَانِعٌ لِمفهومِ “الذَّكَاءِ” فِي اللُّغَةِ الطَّبيعيَّةِ مَثَلاً مَع كَثرَةِ استِخدَامِه

لِتَفَادِي هَذَا بحَسبِ فريجة : يَنبَغِي لِلُغَةِ العِلمِ المِثَالِيَّةِ أَن تَستَقِلَّ عَن الُّلغَةِ الطَّبيعيَّةِ بِمَفَاهِيمِهَا الخَاصَّةِ وَأَن تُعَرِّفَ هَذِهِ المَفاهيمَ بِشَكلٍ بُنيَوِيٍّ مُنضَبِطٍ بِنَاءً عَلَى نِظامِ فَرَضِيَّاتٍ مُحَدَّد

4- عَدَمُ تَكَافُؤِ أَركَانِ الجُّملَةِ اللُّغَوِيَّةِ مَع مَثيلَاتِهَا المَنطِقِيَّة: قَصَدَ فريجة بِهَذا عَدَمَ ضَرورَةِ أَو كِفَايَةِ التَّمييزِ اللُّغَوِيِّ بَينَ المُسنَدِ وَالمُسنَدِ إلَيهِ لِتَوضِيحِ البُنيَةِ المَنطِقِيَّةِ لِلجُمَل

سَاقَ لإثباتِ عَدَمِ الضَّرورَةِ الأَمثِلَةَ التَّالِيَةَ

” At Plataea the Greeks defeated the Persians”

” At Plataea the Persians were defeated by the Greeks “

فَبِالرَّغمِ مِن تَكَافُؤِ المَعنَيَين فَإنَّ المُسنَدَ إلَيهِ فِي الحَالَةِ الأولَى هُو

” the Greeks”

أَمَّا فِي الحَالَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ

” the Persians “

كَمَا يُمكِنُنَا أَن نُعَبِّرَ عَن نَفسِ هَذا المَعنَى كَالآتِي

“The defeat of the Persians by the Greek at Plataea is a fact”

:أَي

“هَزيمَةُ الفُرسِ مِنَ الإغريقِ فِي بلاتيا حَقيقَةٌ”

بَل إنَّهُ يُمكِنُنَا إن شِئنَا أَن نُعَبِّرَ عَن أيِّ جُملَةٍ فِيهَا مُسنَدٍ وَمُسنَدٍ إلَيهِ بِالطَّريقَةِ التَّالِيَةِ

ج=<مُصطَلَحٌ صُورِيٌّ>+”حَقيقِيٌّ/حَقيقيَّةٌ”

بِحَيثُ يَكونُ المُصطَلَحُ الصُّورِيُّ اسماً يَحتَوِي المُسنَدَ وَالمُسنَدَ إلَيهِ فِي نَفسِ الوَقت

مِن هَذا المِثَالِ يَتَّضِحُ أنَّ المُسنَدَ فِي أَيِّ جُّملَةٍ عَلى شَكلِ: “ج” لَا يُضِيفُ إلَى المَعنَى المَنطِقِيِّ أَيَّ شَيءٍ وَيُمكِنُ حَذفُهُ. وَهَذا هوَ شَكلُ الجُّملَةِ الَّذِي استَقَرَّ فريجة عَليهِ فِي نِظَامِهِ حَتَّى سُمِّيَ “مَنطِقَ المُصطَلَحَاتِ” كَمَا سَبَقَ أنَ مَرَّ مَعَنا

وَحَتَّى فِي الحَالَاتِ الَّتِي يَكونُ لِلتَّفرقَةِ اللُّغَويَّةِ بَينَ المُسنَدِ وَالمُسنَدِ إلَيهِ تَأثِيرٌ فَإنَّ فريجة يَرَى هَذِهِ التَّفرِقَةِ غَيرَ كَافِيَةٍ لِتَجسيدِ المَعنَى المَنطِقِيِّ المَطلُوب

 فَفِي الجُّملَةِ

” All whales are mammals “

يُسنَدُ إلَى التَّعبيرِ

” All whales”

(وَالَّذِي لَايُعَبِّرُ عَن فَردٍ مُعَيَّنٍ بِعينِهِ وَلَايُمكِنُ بالتَّالِي أَن يَكونَ مُصطَلَحاً لَدى فريجة) مَفهومٌ جَديدٌ لَيسَ صِفَةً لِمَفهومِ “الحِيتَانِ” نَفسِهِ وَإنَّمَا صِفَةً لِلإشيَاءِ الوَاقِعَةِ ضِمنَه وَيُمكِنُنَا التَّعبيرَ عَن نَفسِ الجُّملَةِ إذاً بِالشَّكلِ التَّالِي

“أَيُّ شَيءٍ مِن نَوعِ الحُوتِ هُوَ أَيضاً مِن نَوعِ الثَدييَّاتِ”

لِأَنَّ مَفهومَي: “الحُوتِ” وَ”الثَّدييَّاتِ” كِلاهُمَا مِنَ الدَّرَجَةِ الأُولَى أَي أَنَّهَا مَفاهيمُ عَن الأشياءِ وَلَيسَت مَفاهيمَ عَن المَفاهِيم

بالتَّالِي : مَعَ أنَّ هَذِهِ الجُّملَةِ تُعَبِّرُ مَنطِقِيّاً عَن عَلاقَةِ مَفهومَينِ بِبَعضِهِمَا يَتِمُّ تَمثِيلُهَا نَحويّاً بِنَفسِ طَريقَةِ تَمثيلِ العَلاقَةِ بَينَ فَردٍ مُعَيَّنٍ وَصِفَةٍ مِن صِفَاتِ هَذَا الفَردِ كَمَا فِي

” The president of the USA is a republican”

مَثَلاً وَهوَ مَا يُؤَكِّدُ فَشَلَ التَّقسيمِ اللُّغَوِيِّ – فِي رَأيِ فريجة – فِي التَّعبيرِ عَن الفُروقِ المَنطٍقيَّة النَّوعِيَّةِ بَينَ التَّعَابيرِ

وَيُصبِحُ الأَمرُ أَكثَرَ تَعقِيداً فِي حَالَةِ الجُّمَلِ المُعَبِّرَةِ عَن وُجودِ المَفاهيمِ كَمَا فِي

“الثَدييَّاتُ مَوجودَةٌ”=” Mammals exist “

         ”  بَعضُ الثَدييَّاتُ أفيالٌ” = ” Some mammals are elephants “

حَيثُ لَا نَعنِي – مَنطِقِيّاً – بِهَذهِ الجُّمَلِ أَيَّ أَفرادٍ تُحَقِّقُ الأَنواعَ المَذكُورَةَ وَإنَّمَا نَعنِي تَحَقُّقَ المَفهومِ نَفسِهِ وعَدَمِ خُلُوِّهِ مِن الأفرَاد

وَقَد اعتَبَرَ فريجة هَذَا النَّوعَ مِنَ المَقولاتِ تَعابيراً مِنَ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ لِهَذَا السَّبَبِ بِالذاتِ وَهوَ مَا جَعَلَ التَّعَابيرَ اللُّغَويَّةَ الشَّائعَةَ مِثلَ

“قَيصرُ مَوجودٌ”=” Caesar exists “

خَاطِئةً مَنطقيّاً مِن وِجهَةِ نَظَرِهِ لِأنَّهَا تَخلِطُ بَينَ الأشيَاءِ : الشَّخصِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيهِ لَفظُ “قَيصر” وَالمَفاهيمِ : مَفهومُ

“قَابِلِيَّةِ التَّسمِيَةِ بِقَيصر”

فَمَعَ أَنَّنَا نَعنِي عَدَمَ خُلُوِّ المَفهومِ الأَخيرِ مِن أَفرادٍ نَستَخدِمُ شَخصَ “قَيصر” فِي التَّعبيرِ عَن هَذَا المَعنَى

والصَّحيحُ – عِندَ فريجة – أَن يُقالَ

“هُناكَ رَجُلٌ إسمُهُ قَيصر” = There is one man named Caesar”

وَالمَعنَى: مَفهومُ “قَابِلِيَّةِ التَّسمِيَةِ بِقَيصر” مُتَحَقِّقٌ بِفَردٍ وَاحِدٍ عَلَى الأَقَّل أَي أَنَّ الجُملَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بالمَفهومِ لَا بِالشَّخصِ المَقصود

وَلَقَد كَانَت هَذِهِ التَّعقيدَاتُ اللُّغَويَّةُ هِيَ السَّبَبَ المُبَاشِرَ فِي رَفضِ فريجة لِلتَّقسيمِ اللُّغَوِيِّ المُقتَضِي وُجودَ مُسنَدٍ وَمُسنَدٍ إلِيهِ وَاستِبدَالِهِ بِالتَّقسيمِ المَنطِقِيِّ المُتَمَثِّلِ فِي الدَّالةِ وَمُدخَلَاتِها كَمَا رَأينَا

5-الخَلطُ فِي اللُّغَةِ بَينَ الشَّخصِيِّ وَالمَوضُوعِيِّ : ويُعَدُّ هَذَا – تَاريخِيّاً – أَحَدَ الأَسبَابِ الرَّئيسيَّةِ الَّتِي جَعَلَت فريجة يَبدَأُ مَشروعَهُ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ حَيثُ تَزَامَنَتْ مَعَ جُهُودِهِ هَذِهِ دَعَوَاتٌ لِإدخَالِ العُنصُرِ الإنسَانِي النَّفسِيِّ إلَى الاستِنبَاطِ المَنطِقِيِّ وَالرِّيَاضِيِّ وَهُوَ مَا رَفَضَهُ فريجة بِشِدَّةٍ لِإعتِقَادِهِ بِوُجودِ حَقَائِقَ مَوضوعِيَّةٍ مُستَقِلَّةٍ عَنِ المَلَكَاتِ والمَعارفِ البَشرِيَّةِ. وَكَانَ طَبيعياً إذاً أَن يُسقِطَ نَظرَتَهُ هَذِهِ عَلى اللُّغَةِ الطَّبيعيَّةِ ويُصَرِّحُ بِأنَّ هَدفَ مَشروعِهِ هُوَ فَصلُ الجَانِبِ المَنطِقِيِّ المَوضوعِيِّ للُّغَةِ عَن الجَوانبِ الأُخرَى

20 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published.