يَهدُفُ هذا المَقالُ إلى شَرحِ وتَبسيطِ أَهَمِّ النتائجِ المَعرفيةِ التي أوصَلَتنا إليها العُلومُ الحَديثةُ وبخاصةٍ عِلمَا الفيزياءِ والرياضياتِ وأَثَّرَتْ بِشَكلٍ كَبيرٍ في نَظرَتِنا الحَاليَّةِ لما نُسَمِيه “الحَقيقةَ العِلميةَ” بِلُغةٍ عَربيةٍ واضحةٍ تُتيحُ للقاريءِ المُطَّلِعِ اطِّلاعاً مَدرسياً غَيرَ مُتَخَصِّصٍ نَظرةً شاملةً وعَصرِيَّةً تُيَسِّرُ لَهُ الرَّبطَ بَينَ هَذه النَّتائِجِ وتُراثِهِ العَرَبِيِّ الإسلامِيِّ بِسُهولَةٍ ويُسر.
يَنتُجُ عَن هَذَا الرَّبطِ إدراكُ التَّشابُهِ بَينَ العُلومِ الإسلاميَّةِ – مُمَثَّلَةً فِي عِلمَي الفِقهِ وأُصُولِهِ – ومَثِيلاتِها الطَّبيعيَّةِ مِن حَيثُ فَكُّ الارتِباطِ بَينِ الحَقيقةِ كَمَا هِيَ مِن ناحيةٍ ومَفهومِنَا عَنها مِن ناحيةٍ أُخرى ومِن حَيثُ البُنيةُ المَنطقيةُ وقَوَاعِدُ الاستِنبَاط.
يُخالِفُ إدرَاكُ هذا التَّشَابُهِ الشَّائِعَ عَن هَذِهِ العُلومِ في عَصرِنا ويُساعدُ على إعادةِ النَّظَرِ في الكَثيرِ مِن مُسَلَّماتِ الثَّقَافَةِ المَوروثَةِ الَّتي لَا قَرائنَ عَليها.
ولقد غَدَت فَلسفةُ العُلومِ في عَصرنا الحاليِّ شَديدةَ الارتِباطِ بنَظَريةِ المَعرفةِ التي سَاهم في تأسيسِها كارل بوبر (1) وتَخَلَّتْ عَن دَورِها التَقليديِّ في فَرضِ شُروطِ الحَقيقةِ بشكلٍ ذِهنيٍّ مُنفَصِلٍ عن التَجرُبّةِ وفَهمِ أو تَفسيرِ الاكتشافِ العِلميِّ بِطَريقَةٍ مُستَقِلَّةٍ عَن أَدَوَاتِهِ أَو حَسبما اقتَضَتْ الضرورةُ الفِكريَّةُ البَحتَة.
صارَ للكشفِ العِلميِّ التَجرِيبيِّ أو الرِياضِيِّ دَورُ القيادةِ في تَقَبُّلِ الباحثينَ والمُثقفينَ للفكرِ الفَلسفيِّ بشكلٍ لم يَسبِق لُه مَثيل.
وقد كان للنتائجِ العِلميَّةِ الأُصُوليةِ – مَحَلَّ اهتمامِ هذا المَقالِ – الفَضلَ الأكبرَ في هذا التطورِ وهو ما جَعَل فَهمَها واستيعابَها الصحيحَ شرطاً لازماً للبحثِ العِلميِّ والرَّأيِ المُثَقَّفِ السَّليمِ أيَّاً كان مَجَالُه.
لَم يَعُدْ العِلمُ هو “مَعرفةُ الشيءِ على ما هو عليه في الحقيقةِ” كما كان عند القُدماءِ بعد أن أدرَكَ العُلماءُ استِحَالَةَ الوُصولِ إلى الدِقَّةِ المُطلَقَةِ في أيَّةِ أَدَاةٍ للقياسِ مِن ناحيةٍ وعَدَمَ إمكانِيَّةِ استِنبَاطِ كُلِّ النَظَريَّاتِ الصَحيحةِ مِن مُقدماتِها لأيِّ نِظامٍ مَنطِقِيٍّ صُوريٍّ ذي قُدرةٍ تَعبيريةٍ بَسيطةٍ – تُكافيءُ قُدرةَ الرياضياتِ المَدرسيةِ – مِن ناحيةٍ أُخرَى.
تَبَيَّنَ لَهُم أنَّ الحَقيقَةَ الَّتِي هِيَ مِحوَرُ اهتِمَامِ أَيِّ نِظامٍ عِلمِيٍ مَنطِقِيٍ أَكبَرُ مِن قُدرَةِ النِّظامِ نَفسِهِ عَلَى احتِوائِها بِالبَرَاهِينِ بَل أَكبَرُ مِن قُدرَتِهِ عَلَى التَّعبِيرِ عَنهَا بدِقَّةِ كافِيَة.
فَقَدَ العِلمُ بالتالي – وللأبَدِ – أَمَلَهُ في الوُصولِ إليها “كَمَا هِيَ” واكتَفَى بالاهتِمَامِ بِصُورَتِهَا المُنطَبِعَةِ في الذِّهنِ عن طريقِ الحَوَاسِ وأدواتِ القِياسِ وتَعَلَّمَ أيضاً أنَّه يَفتقدُ في كَثيرٍ مِنَ الأحيانِ القُدُراتِ المُناسبةَ لإكمالِ هذه الصورةِ ورُؤيةِ كُلِّ جَوَانِبِهَا ومَعَانِيهَا.
لم يَعُدْ مَفهومُ العَجزِ عن التَفسيرِ العِلميِّ يُعزَى لِمَحضِ الجَهلِ – كَمَا أدَّعَتْ الفَلسَفَةُ المَادِيَّةُ النَّاشِئةُ في مُنتَصَفِ القَرنِ التَّاسِعِ عَشَرَ- وصَارَ مُرتَبِطاً بِعدمِ كِفايَةِ النّموذجِ المَنطقيِّ المَوضوعِ لِفَهمِ الظاهرةِ الطَبيعيةِ مَحَلَّ الاهتِمَام.
أصبَحَ إدرَاكُ العَجزِ عن التَفسيرِ أو الاستنباطِ مَدخَلاً مُهِمّاً لِرَسمِ صُورَتِنَا الذِّهنيَّةِ عن الظواهرِ الطبيعيةِ بَل مَبدَءاً عَمَليّاً ومِفتاحاً للكثيرِ من المَعارفِ العِلميةِ الجديدةِ التي أَتَاحَتْ قَفَزَاتٍ تِقَنيَّةً كُبرَى كَالتي أَدَّتْ إلى عَصرِ المَعلوماتِ الحَالي.
ويَكفي لاستيعَابِ أهميَّةِ الإلمامِ بحُدودِ النَّماذجِ العِلميةِ السائدةِ وصُنوفِ العَجزِ المُوصِلَةِ إلى اكتِشَافِ تِلكَ الحُدودِ أن نَعلَمَ أنَّ الجُزءَ الأكبَرَ من مَناهجِ الدِراسةِ الجامعيةِ في عِلمَيِّ الرياضياتِ التَطبيقيَّةِ والحاسِباتِ مَثَلاً يَعتنِي اليَومَ بفَهمِ وتَطبيقِ البَراهينِ المُبَيِّنَةِ لِقُصورِ التَحليلِ البَشَرِيِّ – مُمَثَّلًا في الطريقةِ الخوارزميةِ – عن الوُصولِ إلى حَلٍّ لِمئاتِ بَل آلافِ المَشاكلِ العَمَليَّةِ التي تُواجِهُ نَظريةَ المَعلوماتِ الحَديثة.
يَتَعلَّمُ الطالبُ أنَّ العَجزَ عن حَلِّ هَذه المُشكلاتِ ليس عَجزاً مَرحَليّاً يُمكنُ تَخَطِّيهِ مَع مُرورِ الوَقتِ وتَحَسُّنِ الأَدَواتِ التِقَنِيَّةِ المُتاحَةِ وإنَّمَا عَجزٌ جَوهَرِيٌّ يَطالُ الظَاهرةَ الخَوارزميةَ بِذاتِها وهو ما يَدفَعُهُ للبحثِ عن حُلولَ تَقريبيةٍ لِهذه المَشاكلِ أو أنماطٍ جديدةٍ من الخَوارِزمِيَّاتِ تَعتمدُ على نَظريةِ الاحتِمالاتِ أو على الآلياتِ الشِبهِ عَشوائيَّة.
وقد تَرَكَتْ كُلُّ هَذه التَّطَوّرَاتِ البَاحِثَ والعَالِمَ العَرَبَّيَ وَرَاءَها مُنذ زَمَنٍ بَعِيدٍ حَيثُ أصابَ الضَّعفُ مَنظومةَ التَّعليمِ في مُعظمِ الدُّولِ العربيةِ ووَهَنَتْ حَرَكَةُ نَقلِ العُلومِ إلى اللغةِ العربيةِ مَع عُلُوِّ الأصواتِ المُطالبةِ بالاكتفاءِ بتلقينِها بلغُاتِها الأجنَبِيَّةِ بَدَلاً مِن نَقلِها نَقلاً مُناسِبَاً يُتيحُ للمُهتَمِّ فَهمَ مُحتَوياتِها بِدِقَّةٍ والخُروجَ من دائرةِ التَّقليدِ المُستَمِّرِ إلى دائرةِ الإبداعِ وإنتاجِ الفِكرِ العِلمِيِّ الجَديد.
وأَثَّرَ غِيابُ الإلمامِ بهذه المَعارفِ الأسَاسِيَّةِ – التي كَوَّنَتْ الحَداثةَ العِلميَّةَ والتِّقَنِيَّةَ الحَاليةَ – سلبياً على طُرُقِ البَحثِ العِلمِيِّ ومِن وراءِها كُلِّ مُحتوياتِ الثَّقَافةِ العَرَبيَّةِ الحَاضِرةِ القَريبةِ من العِلمِ بِما فِيها الفَلسَفة.
ومِمَّا زَادَ الطِينَ بِلَّةً أن يَتَوَافَقَ هَذا الوَضعُ المَعرِفِيُّ السَلبِيُّ مَع مُرورِ العَالَمِ العَرَبِيِّ بِمَرحلةِ تَغييرٍ اجتِماعِيٍّ وسِياسِيٍّ صَعبةٍ انقَسَمَ فيها النَّاسُ إلى قِسمَينِ رَئيسييَّنِ : أُولئكَ الذين يَرَونَ في الابتِعادِ عن أُصولِ ومَباديءِ الحَضارةِ الإسلاميةِ سَبَباً رَئيسيّاً للوضعِ البَائسِ للشُعوبِ والدُّولِ في هَذه المَنطقةِ ومُخالِفيهِم مِن الذين يَرونَ أنَّ التُّراثَ الإسلامِيَّ أَحَدُ هذه الأسبَاب.
وقد كَانَ يُمكِنُ لهذا السِّجالِ أَن يَغدوَ مُثمِراً لو أَنَّ للطَرَفينِ مَرجِعِيَّةً عِلمِيَّةً وفِكريَّةً ومَعرِفِيَّةً عَصرِيَّةً تُتيحُ لَهما الاحتِكامَ إليها للرَّدِ على الأسئلةِ الوُجوديةِ التي يَتِمُّ طَرحُهَا في سِياقِ هذا الانقِسامِ بِشكلٍ مَوضوعيٍّ وغَيرِ مُتَحَيِّزٍ:
هَل تَتَعارضُ العُلومُ الحَديثةِ بالفعلِ مَع مَثِيلاتِهَا الإسلامِيَّةِ؟
هَل “الحقيقةُ العِلمِيَّةُ” أَعلَى قِيمةً من “الحَقيقةِ الإسلامِيَّةِ” أو العَكسِ؟
مَا هي المَعارِفُ الجَديدَةُ التي يُمكنُ للعُلومِ الإسلاميةِ – على فَرضِ أنَّهَا مُتوافِقَةٌ مع عَصرِنا الحديثِ – أَن تُضِيفَهَا للعالمِ اليَومَ؟
هَل هُناكَ مَكانٌ للإيمانِ فِي عَالَمِنا المَاديِّ أم أَنَّ عَقلَانِيَّتَنَا تَشترطُ الاقتِناعَ بما نَستطيعُ أن نَجِدَ علَيه أَدِلَّةً وبَراهينَ دَامِغَةً فَقَط؟
هَل هُناكَ حَدٌّ للمعارفِ الإنسانيةِ لا يُمكِنُنا أن نَتَخَطَّاه ؟
يُساعدُ هَذا المَقالُ – في الجُزءِ الأَوَّلِ مِنه – على حَسمِ الجَدَلِ المُثَارِ حَولَ هذا التَّساؤُلِ الأَخيرِ بعَرضِ مُلَخَّصٍ عن حُدُودِ النَّظرَةِ الفيزيائيةِ للعَالمِ كَما عَبَّرَ عِنها أَحَدُ أَعمِدَةِ مَدرسةِ كوبنهاجن الأُستاذُ ماكس بورن في مُحاضرةٍ مُسَجَّلةٍ من العام 1962 تَمَّتْ تَرجَمَتُها كَامِلَةً إلى اللغَةِ العَرَبِيَّةِ (ملحق 2).
تُعنَى المُحاضرةُ بإظهارِ أَنَّ استنباطَ أهَمِّ المُسَلَّمَاتِ الفيزيائيَّةِ الحَديثةِ تَمَّ بواسِطَةِ تَطبيقِ مايُسَمَّى: “مَبدأَ العَجزِ” الذي يُتيحُ – عِندَ فَشَلِ مَجموعةٍ كَبيرةٍ من التَّجاربِ العَمَلِيَّةِ – رَفعَ هذا الفَشَلِ إلى مَرتبةِ القانونِ الطَبيعِيِّ واعتبارَعَدَمِ إمكانيةِ تَحَقُّقِ الهَدَفِ المَرجُوِّ من التَّجارُبِ قَانوناً يُمَثِّلُ حَدَّاً أًعلَى لِما يُمكنُ مَعرِفَتُه أو تَحقِيقُه.
القَارِيءُ المُطَّلِعُ على مفاهيمِ المَنطقِ سَيُلاحِظُ أنَّ القَوانينَ المُستَفَادَةَ بهذا الشَكلِ تَكونُ إذاً مُستَنبَطَةً بالاستقراءِ غيرِالكَامِلِ ولَيسَتْ مُؤَكَّدَةً بِبُرهانٍ يُفيدُ اليَقِين.
ومَعَ أَنَّ انعِدامَ وجودِ براهينَ دامغةٍ على أَهَمِّ المُسلماتِ الفِيزيائيةِ الحَديثَةِ قَد يُمَثِّلُ صَدمَةً للكثيرِ مِن المُثقفينَ في عَصرِنا – الَّذِي تَشَبَّعَ بفكرةِ الصِدقِ المُطلَقِ لمَقُولاتِ الفِيزياءِ بالذَاتِ – إلاَّ أنَّه لا يَعدُو أن يَكونَ مُعَبِّراً عن حَقيقةِ طَريقةِ الفِيزياءِ في استِنباطِ المعَارفِ والتي لا تَعتمدُ على البُرهانِ الرياضيِّ أو المَنطقيِّ بِقدرِ اعتمادِها على عَدَمِ وجودِ تَجرُبَةٍ مُناقضةٍ للقانونِ المُفترَضَةِ صِحَّتُه.
بل إن الفَرقَ بينَ العلمِ وشِبهِ العِلمِ في نَظريةِ المعرفةِ الحَديثةِ لا يَكمُنُ في وجودِ أو عَدَمِ وجودِ براهينَ للمَقولاتِ العِلمِيَّةِ وإنَّما في عَدَمِ وجودِ تَجاربَ مُخالفةٍ مع وضوحِ طَرائقِ التَجربةِ والنَّقض (أُنظُر (1)).
ولَيسَ الأمرُ في الرياضياتِ – وَهوَ مَوضوعُ الجُزءِ الثَّانِي مِن المَقالِ – بأفضَلَ بكَثِير.
ومَعَ أنَّ شَاغِلَ الرياضِياتِ الرئيسيِّ هو البُرهانُ ومَعَ عَدَمِ وُجودِ مَجَالٍ مُحّدَّدٍ للتَّجرِبةِ والفَشَلِ نَستطيعُ الاعتمادَ عليه لِتبريرِ رَفضِنا أو قُبُولِنا للنظرياتِ الرياضيَّةِ فقد أَمكَنَ اكتشافُ حُدودِ المَعرِفَةِ الرياضيَّةِ بِفضلِ أعمالِ العُلماءِ الرُّوادِ مِن أمثالِ كانتور وجودل الَّذينَ أظهَروا أنَّ القُدراتِ المَنطقيةَ والحِسابيةَ تَتَناسبُ عَكسيّاً مع القُدراتِ التَعبيريةِ للُّغَةِ الرياضيةِ المُستَخدَمةِ وأنَّنا كُلَّمَا استَعمَلنا لُغاتٍ أكثَرَ تَعبيراً عَن الأشياءِ التي نُريد فَهمَها قَلَّتْ قُدرتُنا الكَمِّيَّةُ على إثباتِ النَّظَريَّاتِ الصَحيحةِ المُمكنِ إثباتُها عنها.
ويَكمُنُ الفَرقُ بينَ هذا العَجزِ في الرياضياتِ وذَاكَ العَجزِ في الفيزياءِ أنَّ الأوَّلَ يَنبَنِي على بُرهانٍ رِياضِيٍّ مُفَصَّلٍ (مَبدأ عدمِ الكمالِ لجودل (2)) أمَّا الثَّاني فيَنبَني على افتراضٍ عَمَلِيٍّ لَيس له مايُناقِضُه.
العَجزُ في الرياضياتِ يُظهِرُ وجودَ تَناقضٍ مَبدَئيٍّ في آليةِ الاستِنباطِ – لأَيِّ نِظامِ مُصطلحاتٍ لَه قُدراتُ الرياضياتِ المَدرسيَّةِ على الأقَلَّ – يَمنَعُها مِن استنتاجِ كُلِّ المَقولاتِ الصحيحةِ وهو بالتالي أعمَقُ وأشَدُّ تأثيراً مِن النَّاحيةِ المَعرِفيَّةِ مِن العجزِ المُفتَرَضِ والمُستَخدَمِ عَملياً في الفيزياء.
تُمَثِّلُ نَظريَّةُ تارسكي في العام 1936 عن عَدَمِ إمكانيَّةِ تَعريفِ مَفهومِ أو ماهِيَّةِ الحَقيقةِ داخلَ منظومةِ الرياضياتِ المدرسيةِ بِوجهٍ خَاصٍ – والمَنظوماتِ الصُّوريَّةِ ذاتِ القُدراتِ التَّعبيريةِ الشَّبيهةِ أو الأكبرِ بِوجهٍ عامٍ – أحدُ أهمِّ نَتائجِ هذا العَجز.
ويَتَرافَقُ مع مَبدَأَيِّ عَدمِ الكمالِ وعَدمِ إمكانيَّةِ تَعريفِ مَفاهيمِ المَعانِي داخلَ المنظوماتِ الصُّوريةِ – وإنَّمّا في مَنظوماتٍ أّعَمَّ مِنهَا وتَحتَويها – مَبدأٌ هامٌ آخَرُ وهو مَبدأُ عَدَمِ الحَسم.
يَفتَرِضُ هذا المَبدأُ أنَّ إدراكَ حَقائقِ القَضايَا المَنطقيةِ يَستَدعي نَظَرِيّاً وجودَ خوارزمياتٍ تُتِيحُ حَسمَ هذه القَضايَا سَلباً أو إيجاباً وبالتالي فإنَّ إثباتَ عَدمِ وجودِ مِثلِ هذه الخوارزمياتِ الحاسِمَةِ لأيٍّ منها كافٍ لاستِنبَاطِ وجودِ حَدٍّ مَعرِفيٍّ مَبدئيٍّ مُتَعَلِّقٍ بالقضيةِ مَوضِعِ الدِراسَة.
ولَقد تَعَدَّتْ أَهَميَّةُ مَبدأِ عَدَمِ الحَسمِ مَجالَ الخوارزمياتِ إلى الفيزياءِ حَيثُ تَبَيَّنَ عَدَمُ إمكانيةِ حَلِّ مَجموعةٍ هامةٍ من المَشَاكلِ الفيزيائيةِ التي ظَلَّتْ مَفتوحةً لفترةٍ طَويلَة.
كما أّثَّرَ هذا المبدأُ أيضاً تأثيراً جَوهرياً على تَعريفِ وفَهمِ العُلماءِ لمَفاهيمِ الفيزياءِ الحديثةِ كَمَفهومُ العَشوائيةِ الذي يَتَنَاوَلُه الجُزء الثَّاني من المَقالِ بشكلٍ مُفَصَّلٍ كمثالٍ على استخدامِ العَجزِ في مَنظُومَةِ المُصطلحاتِ العلميةِ الحاليةِ وتَعَدِّي أَثَرُ ذلكَ الاستخدامِ – وماتَرَتَّبَ عَليه من اكتشافاتٍ – إلى فلسفةِ العُلومِ وإدراكِنا لحُدودِ العَالمِ الفِعليَّة.
يَتناولُ المَقالُ في جُزئِهِ هذا أيضاً أَثَرَ المَعارفَ الفيزيائيةِ المُستَنبَطَةِ باستِخدامِ مَبدأِ العَجزِ على الرياضيَّاتِ من خلالِ تَنَاولِ مَفهومِ الثُنائيةِ وما نَتَجَ عَنه مِن أفكارٍ استُخدِمَتْ مُؤخَّراً لِحَلِّ بَعضِ مَشاكِلِ الرياضياتِ المُستعصِيَة.
في الجُزءِ الثالثِ والأَخيرِ من المَقالِ تَتِمُّ مُقارنةُ مَفهومِ “الاعتِقادِ العِلمِيِّ” في سياقه الحديث بمَفهومَي “الاعتقادِ الجازِمِ” و”الظَّنِ” الشَّائعَينِ في العُلومِ الإسلَاميَّةِ مُمَثَّلَةً في عِلمَي الفِقهِ وأُصُولِه وبِخاصَّةٍ في كِتاباتِ الإمامِ أبِي حامدٍ الغَزَّالي ومَن تَبِعَه.
تُبَيِّنُ هَذه المُقارنةُ التَشَابُهَ الكَبيرَ في تَعريفِ الحَقيقةِ ورَبطِهَا بالإدراكِ الإنسانيِّ وحَالةِ الاطمِئنَانِ الدَّاخِلَيِّ للتَجارُبِ البَشريَّةِ بَدَلاً عن مَفهومِ المُطابَقَةِ لوَضعٍ مُستَقِلٍ عن الذِهنِ كالَّذي اختَارَهُ الفَلاسفةُ الأقدَمونَ ومَن حَذَا حَذوَهُم مِنَ الإسلاميينَ مِثلُ الإمامِ ابنِ رُشدٍ الأَندَلُسيّ.
تُظهِرُ هذه المُقارَنَةُ استِقرَارَ رَأيِ الأُصوليينَ على كَونِ “اليقينِ الشَّرعيِّ” شَرطاً غَيرَ كافٍ “لليقينِ العَقليِّ” والعَكسُ غَيرُ صَحيحٍ: فَكُلُّ اليَقيناتِ العَقليَّةِ يَقينيَّاتٍ شَرعِيَّةٍ بالتَّعريفِ أو تُؤَدّي إلى يَقينياتٍ شَرعيَّةٍ.
وهذا خِلافاً للشائعِ حاليّاً عن عَقائدِ المُسلمينَ والزَّعمِ بأنَّها تُمَثِّلُ – بالنِّسبَةِ لَهُم – حَقائقَ مُطلَقَةً أو مُستَقِلَّةً عن العَقل.
يُظهِرُ هذا الجُزءُ من المَقَالِ أيضاً أنَّ مَناهِجَ التَّحليلِ والاستِنبَاطِ الفِقهيِّ والأُصوليِّ ومُسلماتِ الفِقهِ ونَظَريَّاتِهِ وأَحكامَهِ تُمَثِّلُ بمُجمَلِهَا نِظاماً صُورياً مَنطِقِيّاً مُتكامِلَ الأركانِ تَتَحَقَّقُ فيه كُلُّ شُروطِ الأنظِمَةِ الصُّوريَّةِ المَنطِقِيَّةِ وتَنطَبِقُ عليه بالتَّالي نَفسُ النَتَائجِ المَعرِفِيَّةِ الحَديثةِ مَحَلَ اهتِمامِ هذا المَقال.
يُعيدُ هذا الجُزءُ طَرحَ التَّسَاؤُلاتِ المَعرِفِيَّةِ الرَّئيسيَّةِ الَّتي طَرَحَها بَحثُنا الأوَّلُ (3) في سِياقِ الفِقهِ وعُلومِه :
هل يُمكنُ أن تَكونَ نُظُمُ الفِقهِ الصُّوريَّةِ كاملةً مَنطقياً أم أنَّها تُمَاثِلُ نَظيراتِها الرِّياضِيَّةَ من حَيثُ القُدراتُ التَّعبيريَّةُ ومن حَيثُ العَجزُ عن استِنبَاطِ كُلِّ ما يُمكنُ استِنبَاطُه؟
هل هُناكَ إشكالياتٌ شَرعِيَّةٌ أو فِقهيةٌ لايُمكنُ حَسمُها ؟
ماهي المُسلَّمَاتُ الفِقهيةُ الرَّئيسيةُ وهل يُمكنُ إثباتُها صُورِيّاً وهَل هُناكَ “مبدأٌ للعجزِ” في العُلومِ الإسلاميةِ أيضَاً ؟
الإجَابةُ عَن هذه التَّساؤلاتِ تَحمِلُ في طَيَّاتِها الإجابةَ عن السُّؤالِ العَمَليِّ المُهِمِّ: إلى أيِّ مَدَىً يُمكننا مَيكَنَةَ الفِقهِ وعُلُومِه وتَحويلِ نَظَريَّاتِهِ إلى أُطروحاتٍ يُمكنُ للآلةِ أن تُعينَ على سَبرِ غَورِها كما تَفعَلُ حالياً في كُلِّ المَجالاتِ العِلمِيَّةِ الأُخرَى ؟
هل يُمكِنُ إنشَاءُ نِظامِ مَعلوماتٍ فِقهِيٍّ دَقيقٍ ومُتكامِلٍ يَعرِضُ الرَّأيَ العِلمِيَّ المَوضُوعِيَّ السَّليمَ إذا قُوبِلَ بِمُستَجَدَّاتِ العَصر؟
يَعتَمِدُ المَقالُ في الرَّدِ على كُلِّ هذه التَّساؤلاتِ طَريقَةً يُمكنُ تَلخيصُها في النِقاطِ التَّاليَة:
أَوَّلاً: تُمَثِّلُ الأفكَارُ المَطروحَةُ مَعلوماتٍ مَدرسيةً أصبَحتْ جُزءاً مَشهُوراً ومُسَلَّمَاً بِهِ مِنَ العُلومِ المَعنِيَّةِ وإن وُجدَ – كما تَقتَضِي طَبيعةُ المَادَّةِ العِلميَّةِ دائماً – مَن يُعارضُها.
يَسري هذا على عِلمَيِّ الفيزياءِ والرياضياتِ كما يَسري على الفِقهِ وأُصولِهِ وهو ما يُسَهِّلُ على القَارِيءِ المُطَّلِعِ وغَيرِ المُتَخَصِّصِ التَّأكُدَ من صِحةِ هذه الأُطروحاتِ بالرُّجُوعِ إلى الكَثيرِ من المَراجِعِ – التي تَمَّ اختيارُ بَعضِها بِعِنايَةٍ في المُلحق رَقم 3 – وعَدَمَ قَصرِ مَهَمَّةِ المُراجعةِ والتَّدقيقِ على المُتَخَصِّصِينَ فَقط.
ثانِياً: يَحتَوي المُلحقُ رَقم 1 على تَرجمةٍ إنجليزيةٍ للمُصطلحاتِ العَربيَّةِ المُستخدمةِ وذَلِكَ لِتيسيرِ مَهَمَّةِ التَّدقيقِ ومُقارنةِ المُحتَوى بِما يَتِمُّ طَرحُهُ بِلُغَةِ العُلومِ العَالمِيَّةِ الحَاليَّةِ وهَي اللغةُ الإنجِليزيَّة.
ثالِثاً: يَتِمُّ سَردُ البراهينِ والحُجَجِ العِلمِيَّةِ المَعروفَةِ والمُهِمَّةِ لإتمَامِ الفَهمِ بِشكلٍ مُجمَلٍ فَقَط – مَع ذِكرِ المَراجِعِ المَشهُورةِ والمُفَصَّلَةِ بِالطبعِ – حَتَّى لا يَتَشَتَّتَ ذِهنُ القَاريءِ في تَفاصيلَ يُمكنُ لَه أَن يَطَّلِعَ عَليها بِشكلٍ مُنفَصِلٍ فيما بَعد.
يُتيحُ هذا السَّردُ المُجمَلُ رَبطَ هذه الحُجَجِ المُهِمَّةِ بالسِّياقِ المُعَيَّنِ المُرادِ تَوضِيحُه.
رابعاً : لايَهدِفُ هذا المَقالُ إلى إقناعِ القَاريءِ بأيٍّ مِن وُجهاتِ النَّظَرِ المَطروحةِ فِيه وإنَّمَا بِوَضعِها جَميعاً – بِنفسِ مُستَوَى الإسهَابِ المُتَحَرِّي المَوضُوعيةَ بِقدرِ الإمكانِ – أمامَ عينِهِ الفَاحصةِ حّتَّى يَتَسَنَّى لَه رَبطُ حَقائقِ العُلومِ المُبَيَّنَةِ وتَكوينُ قَنَاعَاتِهِ الدَّاخِليَّةِ بِنفسِه.
خامِساً : يَلتَزِمُ هذا المَقالُ بالفَصلِ – قَدرَ الإمكانِ – بين الحقائقِ العِلميةِ والتَّعميمِ الفَلسفِيِّ لها لِمَا لِهذا التَّعميمِ مِن أَثَرٍ ضَارٍ على الاستيعابِ الصَّحيحِ للحقائقِ دُونَ مُبالغةٍ أو تَقصيرٍ عَادةً ما يُسيئانِ فَهمَ نَتائجِ العِلمِ وحُدودِ إمكانياتِ أَدَواتِه.
لَكنَّ هذا الالتِزامَ لا يَعنِي في نَفسِ الوَقتِ عَدَمَ التَّنبيهِ المُستقلِّ وفي المكانِ المُناسبِ على خَطَأِ النَّظرةِ الفلسفيةِ إذَا تَعَارَضَتْ مَعَ صَحيحِ وصَريحِ الحَقيقةِ العِلميَّةِ المُستَجَدَّةِ فَمَعَ أنَّ المَكانَ الصَّحيحَ لنتائجِ العُلومِ هو مُختبراتُها إلاَّ أنَّ هذه النتائجَ كثيراً ما تَتَعَدَّى جُدرانَ المُختبراتِ وقَاعاتِ مُحاضراتِ الجَامعاتِ لُتصبِحَ واقِعاً مَلمُوساً يُغيِّرُ نَظرةَ النَّاسِ في كُلِّ مَكانٍ للعالمِ والحياةِ ويُحدثُ ثَوَرَاتٍ مَعرِفيَّةٍ تَستوجِبُ الاهتِمامَ بِتوثيقِ الفُروقِ بينَ التَّعميماتِ الفَلسفيةِ وتَمييزِ بعضِها عَن بعضٍ من حيثُ الامكانِيَّةُ والاستِحَالةُ على أَقَلِّ تَقدير.
يَزيدُ مِن أَهميَّةِ التَّنبِيهِ عَلى البُعدِ الفَلسَفِيِّ بَينَ حِينٍ وآخَرَ أنَّ السِّياقَ التَّاريخِيَّ الفِعلِيَّ للنَتَائجِ العِلمِيَّةِ مَحَلَّ الاهتِمامِ هُنَا مُرتبِطٌ بمَشَاريعِ الفَلسَفَةِ المادِيَّةِ الكُبرَى للنِصفِ الثَّانِي مِن القَرنِ التَّاسِعِ عَشَرَ ذَاتِ البُعدِ الاجتِماعِيِّ والأخلاقِيِّ الهَامِ والتي كانَ يُفتَرَضُ بالعِلمِ أَن يَكونَ مُوافِقاً ودَاعِماً لَهَا لَولا ظُهورِ هَذهِ النتائِج.
لَم تَكُن أبحاثُ جودل وتارسكي وراسل ومِن قَبلِهِم كانتور – والتي أثبَتَتْ وجُودَ مَعَانٍ مُسَلَّمَةٍ وضَروريةٍ لِعَمَلِ الآلَةِ العَقليةِ لَكِنَّهَا خَارجةٌ في نَفسِ الوَقتِ عَن نِطاقِ سَيطَرَةِ هذه الآلةِ – إلَّا رَداً عَلى أُطروحَاتِ هيلبرت وفريجة وقَبلَهُم لابلاس وبَاقِي الفلاسفةِ المَاديينَ مِن أمثالِ هيوم وكومت الذّينَ تَوَهَّمُوا إمكانيةَ المَيكَنَةِ الكَامِلَةِ لِلاستِنتَاجِ المَنطقيِّ ورَفَضُوا الجَانِبَ المَعنَوِيَّ للإبدَاعِ العَقلِيِّ والرِياضِيِّ وأنكَرُوهُ وتَابَعَهُم كثيرٌ مِن النَّاسِ حتَّى يَومِنا هَذا فَأصبَحَ الاعتِقادُ الشَائِعُ لَدَى عَوامِّ المُثَقَّفِينَ أنَّ الآلةَ يُمكِنُها أَن تَقومَ مَقامَ الانسانِ أو أنَّ “الذَّكاءَ الاصطِناعِيَّ” يُمكِنُهُ فِعلاً في يَومٍ مِن الأيَّامِ أن يُمَثِّلَ نِدّاً للذَكاءِ الفِطريِّ الإنسانِيِّ في كُلِّ المَجَالَات.
وأخيراً – ولَيسَ آخِراً – : يَتَحَرَّى المَقالُ الفَصلَ الكَامِلَ بَينَ النُّصُوصِ الإسلاميَّةِ – وعَلى رأسِهَا القُرآنُ الكَريمُ – مِن نَاحيةٍ وآراءِ عُلَمَاءِ المَذاهِبِ الإسلاميَّةِ والمُفَسِّرينَ الأَقدَمِينَ ومِن ثَمَّ نَظرَتُنَا كمُسلمينَ مُعاصِرينَ لَها مِن نَاحِيَةٍ أُخرَى.
هَذَا الفَصلُ تَستَدعِيهِ نَفسُ المَوضوعيةِ العِلميةِ التي فَصَلَتْ فِي العُلومِ الأُخرَى بَينَ الظَّاهِرةِ الطَّبيعيةِ أَو الرياضِيَّةِ وبَينَ أفكَارِنا ونَظَرِيَّاتِنَا عَنهَا وهوَ فَصلٌ لا يُناسِبُ الفريقينِ المُختَصِمَينِ بِشأنِ التُّراثِ الإسلاميِّ اليَومَ فإمَّا أَن تُقَدَّسَ آرَاءُ العُلماءِ السَّابِقينَ بِحُجَّةِ أنَّهُم أقرَبُ تاريخِيّاً للإسلامِ وأكثَرُ إلمَاماً بالعُلومِ اللَّاِزمَةِ لِفَهمِ مُحتَوى مَعَارِفِهِ أَو أن يَتِمَّ تَجَاهُلُ العُلومِ الإسلامِيَّةِ تَمَاماً وتَجرِيدُهَا مِن مُحتَوَيَاتِها المَعرِفِيَّةِ الوَاضِحَةِ المُمَيَّزَةِ والفَريدَةِ مِن نَوعِهَا بِدِعوَى أنَّ سِيَاقَهَا التَّارِيخِيَّ قَد انتَهَى وأنَّهَا لا تَحتَاجُ مِنَّا إلَى نَظرَةِ تَأَمُّلٍ جَديدةٍ كَما يَفعَلُ مَن يَدَّعِي أنَّه مِن أنصَارِ الإستِنِارَةِ وهُو يُحاولُ إعادةَ تَمثيلِ نَمُوذَجِ التَّطَورِ المَعرِفِيِّ الغَربِيِّ وفَرضَهِ بالقُوَّةِ عَلى تَاريخِ ووَاقِعِ المُسلمِينَ العِلمِيِّ المُختَلِفِ.
فِي المُقابِلِ : يُتيحُ هَذا المَقالُ نَظرَةً مُجَرَّدَةً لإدِّعَاءِ صَلاحِيَّةِ العُلومِ الإسلامِيَّةِ لِكُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ تَتِمُّ فِيها مُقارَنَةُ البِنيَةِ المَعرفيَّةِ لِهذهِ العُلومِ – مُمَثَّلَةً في الفِقهِ وأُصُولِهِ – بِنَظِيرَاتِهَا الطَبيعيَّةِ التي تُقِيمُ نَفسَ الادِّعَاء.
مِن أَهَمِّ الآثَارِ الجَانِبِيَّةِ لِهذهِ المُقارنةِ فَتحُ بِابِ الدِّراسَةِ والبَحثِ في خَواصِ نُظُمِ الفِقهِ الصُّورِيَّةِ والخَوارزمياتِ المُرتَبِطَةِ بِها وطُرُقِ تَمَيُّزِهَا عَن مَثيلاتِها فِي العُلومِ الطَّبيعيَّةِ والرياضياتِ فِي عَصرٍ تَحَوَّلَتْ النُّظُمُ الصُّوريَّةُ فِيهِ – وخاصةً الآليَّةَ مِنهَا – إلى عَونٍ كَبيرٍ للعُلَمَاءِ فِي شَتَّى المَيَادينِ وأصبَحَ الغِيابُ المُستَمِرُّ وغَيرُ المُبَرَّرِ لِمِثلِ هَذهِ الدِراسَاتِ عَن الفِقهِ الإسلاميِّ بِشكلٍ خاصٍ وعُلومِ الإسلامِ بِشكلٍ عَامٍ نَقصَاً عِلميّاً ومَعرِفِيّاً كَبيراً بالنَّظَرِ إلى كَونِ السِيَاقِ الفِقهِيِّ هو المُنشِأُ الأصلِيَّ للطريقةِ الخَوارزميةِ نَفسِهَا.
القَارِيءُ المُطَّلِعُ سَيَسهُلُ عَليهِ إدرَاكُ أَنَّ مِثلَ هَذهِ الدِّراسَاتِ مِن شأنِهَا إثرَاءُ التُّراثِ الإسلاميِّ والفِقهِيِّ بِمُحتوىً نَوعِيٍ جَديدٍ وإيجادُ صِلَةٍ حَقيقيَّةٍ بالواقِعِ وحُلولَ عَمَليَّةٍ للكثيرِ مِنَ المُشكِلاتِ الفِعلِيَّةِ التي تُواجِهُ الفِقهَ الإسلَامِيَّ المُعاصِرَ وتَمنَعُهُ مِن أن يَكونَ لَه مَشروعٌ مَعرفيٌّ حَديثٌ وشَامِل.